* ما يميز مثقفاً عن آخر هو ذلك الحس الإنساني النابع من تجرد الذات من كل الأطماع والرغبات؛ لأنه يؤمن بقرارة نفسه بنبل رسالته وسموها انجلت غيوم الغضب والسخط، بعدما أغرقت الأوطان بالبؤس والضياع حيث تجلت الحقائق أكثر من ذي قبل عندما احتشدت الجموع في الشوارع والأزقة، والآمال تنهمر في مخيلاتهم كالمطر العميم، يمنون أنفسهم بربيع ينسيهم سنوات القحط والجفاف، ويأخذهم إلى عوالم تشعرهم بإنسانيتهم وتهذب من طباعهم المتوحشة. الحقيقة، هي أن الأغلب الأعم من الثائرين، خرج إلى الشارع وهو يدرك تمام الإدراك أنه ربما لا يعود إلى مسكنه وإلى الأبد. والدوافع والأسباب وإن تشعبت إلا أنها لن تخرج عن نطاق تحرر الذات من قيود الاستعباد ذات الأنماط المتعددة، التي استمرأت حكومات القمع لفها حول رقابهم وأيديهم. وسط كل هذا الغضب العارم الذي أخذ يلقي حممه في كل الاتجاهات، ظهر المثقف الانتهازي بصورة الناصح الأمين وهو يقفز من ضفة إلى أخرى بحثاً عن مكاسب اجتماعية تنسيه سنوات الألم والإحباط، وهو الذي كرر في أكثر من مناسبة أن مسؤولية المثقف أجَلّ وأعظم من إغراءات المال والمنصب، لأن المثقف -بحسب تعبيره- هو كتلة من المبادئ والقيم التي تأبى أن تلوثها شهوة الأطماع والرغبات الدنيوية الدنيئة! وما أسهل أن يتشدق الإنسان بعبارات تحرك مشاعر الآخرين في مواقف عابرة إلا أن المثقف حينما تندفع كلماته نحو عقول وأفئدة البسطاء، فهي تتجاوز مرحلة إثارة المشاعر والطموحات، لأنها تستولي على كل جوارحهم لتنقلهم عنوة إلى آفاق وفضاءات شاسعة وكأنهم سلموا زمام عقولهم طواعية إليه ليأخذهم حيثما يشاء، على أن تكون رحلتهم نوعاً من المجازفة الفكرية، رغبة في إدراك ما يجهلونه عن عالمهم الذي يعيشون فيه!. والمثقف بكل الأحوال لا يختلف كثيراً عن غيره من البشر، وإن كان يمتاز بخصلة الإدراك العميق لما وراء الأحداث من أسباب ومؤثرات، لأنه في نهاية المطاف، بشر تتنازعه الأهواء والشهوات، وإن اختلفت من مثقف لآخر إلا أنه من الواجب على كل مثقف أن يتشبث ولو بالحد الأدنى من الالتزام الأخلاقي تجاه من وضعوا الثقة فيه حتى لا يتحول مفهموم الثقافة في أدبياتنا إلى تهمة أشبه بتهمة الزندقة والإلحاد، وعندها لن يجد المثقف الانتهازي سوى الملاحقة واللعن في كل مكان يقصده. فأي حياة تلك التي تنقلب فيها المفاهيم رأساً على عقب، الحياة التي يصاب فيها الناس بداء الشك والارتياب من العلم والمعرفة بسبب طغيان انتهازية المثقف على إنسانيته بصورة مفرطة لا حدود لها!. إن ما يميز مثقفاً عن آخر هو ذلك الحس الإنساني الأصيل النابع من تجرد الذات من كل الأطماع والرغبات؛ لأنه يؤمن بقرارة نفسه بنبل رسالته وسموها، وهذا ما يخلق في داخله اطمئناناً لا حدود له رغم ما يعانيه ويكابده بسبب وفائه لمبادئه. يمثل فولتير أنموذجاً لهذا المثقف الإنسان الذي لا ينحاز إلى مؤثرات الدين ولا إلى الأيديولوجيا رغم أهميتها في البناء النفسي والعقلي لبني البشر، كثوابت يستمدون منها أحكامهم على الأشياء والأشخاص بحيث يخضعونهم -لا إراديَّاً- لمفاهيمهم ومعتقداتهم الخاصة. ولا يقل المتمرد ألبير كامو عن فولتير إنسانية، فهو الفرنسي الذي ناضل إلى جانب الجزائريين لتحرير وطنهم تعبيراً عن حبه للأرض التي ولد فيها رغم الحرب الشعواء التي شنها عليه سارتر وأتباعه بهدف تهميشه وتحجيمه في المشهد الثقافي في فرنسا، إذ لم يتوان في الانسحاب من الحزب الشيوعي الفرنسي، بعدما تخلّى الحزب عن عدالة قضية الجزائريين في الاستقلال حينما انحاز إلى الاستعمار والقوى الفاشية المستبدة وهو يرتدي قناع التأييد والتعاطف مع الثوار الجزائريين، لأن كامو اعتبر هذا التخلّي بمنزلة خيانة كبرى للقيم والمبادئ الإنسانية التي يتغذى عليها ضميره الحي، فهذه النزعة الإنسانية هي ما ميزته عن المثقف الآخر (سارتر) الذي اصطف مع المصطفين ضد إرادة الشعوب وحرياتهم!. وهنا أجدني مضطراً لطرح التساؤل التالي؛ كم يا ترى من مثقف من أمثال فولتير وألبير في مجتمعاتنا؟ والمثقف الذي أعنيه في هذا التساؤل هو (المثقف الإنسان) لا أشباه سارتر الانتهازي والمتلون. أجزم بأنه لا يصل الإنسان إلى هذه المرحلة من التسامي فوق كل المحسوسات والملموسات إلا بعد أن يخالط روحه المعنى الحقيقي لوجود هذا الكون المترامي الأطراف الذي أخبرتنا الأديان جميعها بحتمية زواله يوماً ما. من المحزن، أن يشترك المثقف الانتهازي مع المثقف الإنسان بجوانب معرفية مذهلة ليس بالإمكان إدراكها إلا من خلال البصيرة الثاقبة وسعة الاطلاع، فشتان بين من يوظف معرفته لأهدافه الشخصية ومصالحه، وبين من تحوله المعرفة إلى كتلة قلق على مصير الآخرين. لست أروم في هذا المقال شيئاً من المثالية ولا أبتغي أكثر من لفتة إنسانية تعيد إلى الكائن البشري شيئاً من أدميته، بعدما أنسته معرفته الواسعة حقيقة نهايته المؤكدة.
مشاركة :