موجات الجاذبية.. بداية عوالم غامضة

  • 11/15/2017
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

إعداد: محمد هاني عطوي مرت سنوات طويلة قبل أن تصدق الشائعات بخصوص احتمالية رصد موجات الجاذبية وفقاً لتجربة ليجو، أي (مرصد الموجات التثاقلية بالتداخل الليزري)، الذي كان يبحث عن هذه التموجات الكونية منذ ما يزيد على عقد كامل.وأخيراً، في سبتمبر/أيلول 2015، تمت ترقية المرصد إلى مرصد ليجو المتطور؛ حيث يعمل نظام أكثر حساسية، ويمكنه تصفية الضوضاء وعزلها بشكل أفضل بكثير، الأمر الذي يزيد من فرص جمع الأدلة الملموسة عن وجود شيء يُسمى موجات الجاذبية أو (الموجات التثاقلية). بدأت القصة مع الفيزيائي المشهور في جامعة ولاية أريزونا «لورانس كراوس»، الذي أرسل تغريدة مثيرة على «تويتر» في 25 سبتمبر/أيلول 2015، يقول فيها: «إذا ما صحت شائعة رصد موجة جاذبية في مرصد ليجو فسيكون الأمر مدهشاً». إلا أن الباحثين في المرصد ظلوا صامتين دون تأكيد أو نفي هذه الشائعة، ما أثار الكثير من الجدل وأحياناً الغضب حول تصريحات كراوس في الوسط الفيزيائي، إلا أنه عاد مرة أخرى في 11 يناير/كانون الثاني 2016، بتغريدة جريئة للغاية تقول: «تم التأكد من مصادر مستقلة من خبر موجة الجاذبية فأبقوا على أهبة الاستعداد، هذا أمر مثير للغاية»؛ لكن بعد ساعة تقريباً أعلن كراوس أنه قد تم إعلامه بأن الأمر لم يكن كما توقع، وأنه من المحتمل أن تكون البيانات التي استخدمها ليجو مضللة وغير صحيحة في التجربة، سواء كان هذا عن عمد أو لا، لتخمد شعلة الحماسة قليلاً حتى إشعار آخر. وفي 11 فبراير/شباط 2016 عادت الشعلة لتوقد من جديد بحماسة وسعادة حين أعلن الفريق المكون من أكثر من 1000 عالم من 16 دولة حول العالم رسمياً أن الموجات التثاقلية موجودة بالفعل، وقد استطاع مرصد ليجو المتطور رصدها لأول مرة في التاريخ.الحديث عن موجات الجاذبية جعل الملايين يتساءلون في حيرة. ما هذه الهزات أو التموجات الكونية التي يتحدث عنها الباحثون وما فائدتها؟، ولماذا أحدثت هذه الهزة العنيفة في المجتمع العلمي؟.مصطلح الزمكانالموجات التثاقلية هي اضطراب في نسيج الزمن - المكان أو الزمكان؛ ولكن ما الزمكان أصلاً؟هو مصطلح في الفيزياء يعبر عن فضاء رباعي الأبعاد أدخلته النظرية النسبية لأينشتاين ليكون بديلاً عن المكان المطلق الفارغ في الميكانيكا الكلاسيكية ونظرية الكم. وفي هذا الفضاء الرباعي الأبعاد يعبر عن كل نقطة برباعية هي (س، ع، ص، ز)؛ حيث ترمز (س، ع، ص) إلى الإحداثيات المكانية (المكان)، ويرمز (ز) إلى الإحداثي الزمني (الزمن). أي أنه يتم المزج بين الزمان والمكان في إطار واحد بحيث لا يتم الفصل بينهما عند إجراء الحسابات الفيزيائية. بهذه الفرضية، يتم تحديد مكان جسم ما في الفضاء الشاسع بطريقة أكثر تحديداً بالاعتماد على عنصر الزمان بدلاً من الاعتماد على محاور ثلاثة للمكان فقط. وبالعودة إلى الموجات التثاقلية نجد أن اضطرابات نسيج الزمكان، تؤثر في الإحداثيات الأربعة لأي جسم في الفضاء. فإذا ما لمست سطح ماء بإصبعك مثلاً أو ألقيت حجراً في بركة، ستلاحظ أن هناك تموجات قد نشأت من مركز التلامس وتتوسع إلى الخارج عبر سطح الماء. هذه التشوهات أو الاضطرابات هي المسبب الحقيقي للتجاذب التثاقلي. وأحد الأمثلة المفيدة هو تخيل أنك تضع في قطعة قماش كبيرة ومشدودة جسماً ثقيلاً في منتصفها، الأمر الذي سيتسبب عنه غوص الجسم في قطعة القماش جرّاء ثقله وانحناء نسيج القماشة نفسها حوله. ولو افترضنا أننا وضعنا جسماً أصغر على مقربة من الجسم الأول الأكبر، سيسقط الجسم الأصغر ناحيته، وهي الطريقة نفسها التي يجذب بها أي نجم الكواكب والأجسام الفضائية القريبة.وربما توضح تجربة القماش المطاطي لما يحدث في الزمكان، بشكل عام أو أنها توضح لنا مفهومنا الحالي عن الفراغ عندما نتصوره كمادة تفاعلية ليست خاملة. بهذا المفهوم، سنجد أن أي جسم متسارع في الفضاء سيولد تموجات أو حلقات تموجية في هذا الفراغ، لكن هذه التموجات الصغيرة والضعيفة ستتلاشى سريعاً وبشكل لا يمكننا رصده؛ لكن الأجسام فائقة الحجم، مثل: النجوم النيوترونية أو الثقوب السوداء، هي التي يمكنها توليد موجات جاذبية كبيرة وقوية بما يكفي كي تنتشر وتصل إلى الأرض كي يتم رصدها.الفارق المنشودهناك أربع تجارب مختلفة تعمل حالياً على رصد الموجات التثاقلية وكل واحدة منها تعمل بطريقة مختلفة عن الأخرى أشهرها تجربة ليجو التي كانت تهدف إلى رصد موجات الجاذبية بتتبع ومراقبة الطريقة التي تؤثر فيها على الزمكان. فعندما تمر موجة تثاقلية في الفراغ، فإنها توسع الفضاء في جهة، وتتسبب في انكماشه في اتجاه عمودي. هذه التغيرات هي التي يهدف مرصد ليجو لرصدها وتحديدها باستخدام آلة تسمى «مقياس التداخل»؛ حيث يقوم هذا الجهاز بشطر شعاع ليزري إلى شعاعين ويرسلهما معاً بشكل متعامد بالنسبة لكل منهما وإذا ما ارتحل الشعاعان لمسافات متساوية، ثم انعكسا عن المرايا وعادا مرة أخرى إلى المصدر، فإن الموجات التي يتكونان منها يجب أن تكون متوافقة عند عودتهما إلا أن مرورهما بموجة تثاقلية كفيل بتغيير طول كل شعاع، الأمر الذي ينتج عنه اختلاف المسافة التي يقطعها أحد الشعاعين عن الآخر. وعندما يعود الشعاعان إلى مصدر الانطلاق، يستطيع العلماء رصد هذا الاختلاف أو الاضطراب وكان على الباحثين ملاحظة أن الموجات التثاقلية تغير من طول أشعة الليزر الناتجة عن جهاز مقياس التداخل بمقدار صغير لا يصدق ويساوي 1/10,000 من قطر نواة الذرة. ولرصد مثل هذا التغير الدقيق للغاية، ينبغي أن يقوم مرصد ليجو بتصفية كل مصادر الضوضاء المؤثرة كتلك الناتجة عن الزلازل والمواصلات القريبة وما شابه ذلك. وعلى الرغم من أن المرصد قد فشل لعقد كامل من الزمان في رصد أي موجة تثاقلية، إلا أن ترقيته إلى ليجو المطور قد صنع الفارق المنشود أخيراً.بدأ المرصد المطور فائق الحساسية العمل في سبتمبر/أيلول 2015، بعدما تضاعفت قدراته وصار حساساً بشكل يمكنه من «رؤية» ورصد النجوم النابضة التي تتصادم على بعد 260 مليون سنة ضوئية. ومن المتوقع أن تتضاعف هذه المسافة عند اكتمال التحديثات إلى 650 مليون سنة ضوئية، وللمقارنة فقط، تبعد عنا أقرب مجرة ضخمة، وهي أندروميدا، حوالي 2.5 مليون سنة ضوئية.ويبدو أنه منذ أكثر من مليار سنة مضت، وفي مجرة تبعد عنا أكثر من مليار سنة ضوئية، تقاطع مدارا ثقبين أسودين معاً، ما أدى إلى تصادمهما حسب عمليات المحاكاة الرقمية؛ لأنه لا يمكننا في الواقع رؤية هذا التصادم المهول، لكن ألبرت أينشتاين منذ 100 عام مضت تنبأ بالطريقة التي سنرى بها مثل هذا الحدث الكوني الفريد. وبطريقة لم يتخيلها أحد.ففي عام 1913، طرح أينشتاين فرضية الموجات التثاقلية لأول مرة في عرض تقديمي لزملائه من العلماء قبل عامين كاملين من انتهائه من نظريته العامة للنسبية. وفور انتهائه من النظرية، قام بكتابة مقال مطول عن الموجات التثاقلية وتم نشره في عام 1916، أي قبل مئة عام من تاريخ الاكتشاف الحديث.وقال أينشتاين حينها، إن تصادماً قوياً لكيانين مرعبين مثل الثقوب السوداء سيولد موجات تثاقلية وستعبر الفضاء وتسافر عبر الكون نفسه؛ ولأنه هو القائل فقد تعامل الجميع مع الأمر على أنه حقيقة، وتم صرف ملايين الدولارات على مدار عقود طويلة لتجهيز وبناء وتحسين أجهزة حساسة بما يكفي لرصد هذه الموجات.لقد كانت هناك مؤشرات أخرى قوية على وجود الموجات التثاقلية، لكنها أتت بعد نبوءة أينشتاين بزمن طويل. أولها كانت عندما لاحظ أحد الطلبة ويدعى راسل هالس وأستاذه جوزيف تايلر تغيرات في سلوك زوج من النجوم النابضة يدوران حول بعضهما. ومن المعروف أن النجوم النابضة ترسل دفقات من الضوء حين تدور حول نفسها بسرعة مهولة، ما يسمح برصد تلك الأضواء على الأرض، لكن هالس وتايلر لاحظا تغيرات في دفقات الضوء الناتجة عن هذين النجمين، ما يعني أنهما يقتربان من بعضهما أكثر فأكثر وأنهما يفقدان الكثير من الطاقة. وبما أن فقدان الطاقة يتناسب تماماً مع تنبؤات أينشتاين الموجودة في نظرية النسبية العامة فقط إذا كان الاثنان يطلقان موجات تثاقلية، فقد نالا معاً جائزة نوبل في الفيزياء عام 1993 عن هذا الدليل المدهش.وبما أن الثقوب السوداء أعلى ضجيجاً فيما يتعلق بالموجات التثاقلية، فإن مرصد ليجو رصد تصادماً لثقبين أسودين تبلغ كتلتهما 29 و 36 ضعف كتلة شمسنا، وبكثافة أكبر بكثير منذ 1.3 مليار سنة مضت، ونتج عن ذلك أنهما أرسلا معاً موجات تثاقلية مذهلة بلغت من قوتها أن استطاع مرصد ليجو سماع صوتها ورصدها عبر هذه المسافة المذهلة.نظرة جديدة هكذا يمكننا اعتبار أنفسنا من المحظوظين بما يكفي كي يصبح مثل هذا التصادم هو أول ما يرصده ليجو. ووفقاً للتصادم الذي رصده ليجو، فقد دار الثقبان الأسودان حول بعضهما ببطء شديد لملايين أو حتى مليارات السنين، وعندما أخذا في التقارب أكثر وأكثر من بعضهما، تسارعت مداراتهما تدريجياً حتى صار كل منهما يدور حول الآخر بسرعة تقارب نصف سرعة الضوء، مع إطلاق كميات هائلة من الطاقة على شكل موجات تثاقلية تطوي الزمن طياً، ثم اندمج الثقبان معاً، ولكن في الثانية الأخيرة وقبل حدوث ذلك أطلق الثقبان الأسودان طاقة تزيد على مجموع الطاقة التي يبثها الكون بأكمله بجميع صورها الإشعاعية، وحالما اندمج الثقبان معاً أخيراً، فإن الثقب الأسود «المخيف» الناتج عن الاندماج اهتز لبعض الوقت قبل أن يهدأ أخيراً، مطلقاً ما يسمى «بالرجة» وهي ما يمكننا أن نتصوره كزفرة أو تنهيدة أخيرة قبل السكون التام. أمام حدث مثل هذا لا يعبث بالمكان والفضاء التقليدي الذي عرفناه طوال حياتنا فحسب؛ بل بالأبعاد الأربعة.. بالزمكان نفسه، أثبت العلماء لأول مرة حقيقة موجات الجاذبية. ولا شك أنه لا يمكن لأحد أن يتخيل ما سينتج عن مثل هذا الكشف الرائع للإنسانية. فالأمر أشبه بما حدث عند اكتشاف أشعة إكس للمرة الأولى أو الأشعة دون الحمراء والميكرويف واستخدامها في علم الفلك ورصد الكون.والواقع أن اكتشاف الموجات التثاقلية يأتي كي يخلق ثورة جديدة في علم الفلك وعمليات رصد الكون؛ لأنها ستسمح لنا برؤية أشياء جديدة ظلت خفية أو محجوبة عنا زمناً طويلاً. وربما يستغرق الأمر بعض الوقت حتى يصبح علم الفلك القائم على الموجات التثاقلية منتشراً ويستخدمه الجميع، لكن ما إن يحدث هذا، فإن الأحداث الكونية المحجوبة التي تهز جوانب الفضاء السحيق حتى الآن ستنتقل من عالم الحسابات الرياضية والاستنباطات إلى عالم الملاحظة والرصد المباشر.فلنستعد لرؤية عوالم جديدة وأحداث عظيمة سيزدحم بها كوننا بعدما ظلت غامضة ومنسية لآلاف السنين.

مشاركة :