ينتقد الباحث السياسي الصيني تشانغ وي وي والذي يعد حاليا من أبرز المحللين السياسيين على الساحة الدولية فيما يخص الشأن الصيني في كتابه "الزلزال الصيني نهضة دولة متحضرة" الحضارة الغربية مؤكدا أنه في حال المقارنة بين التطورات في الحضارات الصينية والغربية سنجد أن صعود الغرب ليس ناتجا عن عمليات التصنيع والتمدن والعولمة وإقامة الديمقراطية، بل من العبودية والاستعمار والفاشية والتطهير العرقي واندلاع الحروب العالمية والبلطجة واستغلال الكثير من الدول الأخرى. وأن الحضارة الصينية هي أطول حضارة مستمرة في العالم وتبدو قادرة على جلب العناصر الإيجابية من الحضارات الأخرى مع الحفاظ على هويتها الخاصة تماما مثل البوذية الهندية عندما تأثرت بالحضارة الصينية والماركسية أيضا، فيتعلم الآن 400 مليون صيني اللغة الإنجليزية و20% من المطبوعات الصينية كل عام هي كتب مترجمة.. وغير ذلك. ورأى تشانغ في كتابه بالتعاون بين دار سما والمجموعة الدولية للنشر بترجمة محمود مكاوي وماجد شبانه وراجعه د.أحمد سعيد، أنه في ظل نظام عالمي يسيطر عليه الغرب تكون الصين لاعبا ضعيفا بوجه عام، ولكن مع وجود استراتيجية ممنهجة تضمن النهضة السريعة لإقليم متقدم ضخم، أوجدت الصين قوتها النسبية وغير المتماثلة، وعندما قال توماس فريدمان "إن شنغهاي وبكين وداليان، كانت أفضل من نيويورك في كثير من المجالات". حيث اعترف بطريقة غير مباشرة بتأثير قوة الصين النسبية وغير المتماثلة في مقابل قوة الولايات المتحدة النسبية وغير المتماثلة. وبهذا النهج تتعزز بصورة كبيرة فرصة الصين للفوز بالمنافسة الدولية. إن قدرة الصين التنافسية في مجالات مثل صناعة الفضاء وبناء السفن والإلكترونيات والقطارات عالية السرعة والسيارات وأنظمة مترو الأنفاق الحضرية جزء لا يجزأ من التوزيع المحلي الذي يظهر قوة الصين الاقتصادية والتكنولوجية. وأشار إلى أن البعض يعتقد أن النموذج الغربي يمثل نموذج البشرية الأسمى وكل ما على الصين فعله هو تحقيق نقلة اقتصادية واجتماعية وسياسية وفقا للنموذج الغربي، ولكن في رأيي إذا اتبعت دولة متحضرة مثل الصين النموذج الغربي ستشهد الدولة فوضى وانقساما. في الواقع بالعودة إلى الماضي إذا اتبعت الصين النوذج الغربي بدلا من الالتزام بمسارها الخاص لكان من الممكن أن تعاني انقساما مثل الاتحاد السوفيتي ويوغوسلافيا. وأكد تشانغ أن نهضة الصين هو نموذجها الخاص للتنمية الذي لا يعترف به الغرب، ولكن على الأرجح ستستمر الصين في التقدم في مسارها الذي اختارته، وسوف تصبح أكبر اقتصاد في العالم بكل ما لها من تأثير على العالم أجمع، لكن هذا لا يعني أن الصين والغرب سيتحركان بالضرورة في مسار اصطدام بل على العكس فإن طبيعة الصين كدولة متحضرة تقرر أنه في ضوء تقاليدها الثقافية من غير الممكن أن تكون الصين دولة عازمة على المواجهة، إنما على الأرجح تسعى إلى التعايش السلمي والتعليم المتبادل والنتائج المربحة لكل الأطراف، مع دول أخرى وأنظمة سياسية أخرى، وهذا في الواقع أمر جيد لبقية العالم ولكن ربما تتغير هذه الصورة الإيجابية إذا كانت بعض الدول عازمة على البدء في الاحتكاك في الصين. وقال إنه يمكن استخلاص ثماني خصائص لدولة الصين المتحضرة وهذه الخصائص هي: كثافة سكانية هائلة ـ أرض ذات مساحة هائلة ـ تقاليد ذات تاريخ طويل ـ ثقافة شديدة الثراء بشكل متميز ـ لغة فريدة ـ مجتمع فريد ـ اقتصاد فريد، هذه الخصائص تجمع كل واحدة منها عناصر الحضارة الصينية القديمة والدولة الحديثة الجديدة. ولفت تشانغ إلى أن الثقافة الصينية تتميز بالشمولية أكثر من الخصوصية الأمر الذي أثر على كل جوانب الحياة الصينية، مثلا توحدت آلاف اللكنات في إطار لغة مكتوبة واحدة في أنحاء الدولة شاسعة المساحة، أيضا يختلف سكان بكين وشنغهاي وجوانزو أشهر ثلاث مدن في الصين اختلافا كبيرا عن بعضهم البعض من حيث أسلوب الحياة والعقلية، وربما يكون هذا الاختلاف أكبر من الاختلاف بين البريطانيين والفرنسيين والألمان، كما تظهر الاختلافات جلية بين 56 مجموعة عرقية صينية ولكن أغلب هذه الاختلافات إن لم يكن كلها تتكامل مع بعضا البعض في الإطار العام للفكرة الكونفوشيوسية المعتمدة على "الوحدة في التنوع". ونبه إلى أن ثلاثة عقود من المواجهات الثقافية مع الغرب لم تتسبب في فقدان الثقة في الثقافة الصينية، على العكس فقد ولدت هذه المواجهات اهتماما أعظم بالثقافة الصينية وذلك له دلالاته. فالثقافة الصينية لم تضعف بتعرضها الموسع للثقافة الغربية، على العكس لقد أصبحت أكثر ثراء وجمالا من خلال هذا التعرض. إن الانترنت من الغرب لكن على الانترنت توجد كل أنواع القصص الصينية، والموضوعات تتراوح بين "رومانسية المملكات الثلاث" إلى "قصة الخارجين على القانون"، وفي عصر الانترنت وتويتر يعتبر التراث الثقافي الصيني المتنوع الذي تتميز به الصين أغنى مصدر للآداب وغيرها من الأنشطة الإبداعية للصينيين وغيرهم من المهتمين بالثقافة الصينية. وكشف تشانغ عن أن المفهوم الصيني "اقتصاد السوق الاشتراكي" اليوم هو في جوهره مزيج من اقتصاد السوق الغربية والاقتصاد الصيني التقليدي الإنساني، وقال "لا يمكن لاقتصاد السوق ولا الاقتصاد الإنساني أن يعملا منفردين بفاعلية فالأول وحده يمكنه بالكاد تلبية مطالب السكان العامة، والذين دائما ما تكون توقعاتهم من الدولة مرتفعة، في حين أن الأخير وحده لا يسمح للصين بالمنافسة على الصعيد العالمي. وفي رأيي أن النموذج الصيني اليوم قد جمع كلا من نقاط القوة في النموذجين وأن هذا المزيج أنتج القدرة التنافسية للاقتصاد الصيني مع بقية الاقتصاديات الغربية الأخرى". وأوضح أنه بفضل ثلاثة عقود من الجهود الدؤوبة المتواصلة اتخذ اقتصاد السوق الاشتراكي في الصين إلى حد كبير شكله الذي يجمع بين ما أسماه المؤرخ الأميركي الصيني راي هوانغ "الإدارة العددية" أو "الإدارة الجزئية" وما يمكن أن نسميه "التنظيم الكلي" والذي خلق اقتصادا أكثر تنافسية في العالم، و"الإدارة العددية" هي قوة الغرب الضاربة، ولقد تعلمت الصين اتقانها إلى حد كبير، بينما "التنظيم الكلي" متأصل في الثقافة الصينية وهي قوة الصين، ولم يدرك الغرب حتى الآن أنه يخدم مصالحه، فعليه أن يتعلم بعض الأشياء من الصين في هذا الصدد. ومن الصواب أيضا أنه نظرا للثقافة والتقاليد ذات التوجه الفردي فإنه قد لا يكون من السهل للغرب القيام بذلك، وفي رأيي وفي ظل وجود العولمة المكثفة والمنافسة الدولية، لن يستطيع نظام قائم على كفاءة "إدارة العددية" فقط دون "التنظيم الكلي" أن يصبح قادرا على المنافسة مثل الذين يستخدمون كلا الكفاءتين. ولفت تشانغ إلى أنه يمكن للصين والغرب أن يتبادلا الأفكار والممارسات لصالح كل منهما، والصين تعمل على ذلك على مدى العقود الثلاثة الماضية، ولكن على المستوى الأعمق هناك أشياء لا ينبغي ولا يمكن تغييرها، لأنها تشكل جوهر الأمة، وتميزها عن بقية الدولة الأخرى، والجهود المبذولة لتغيير جوهر الصين من المرجح أن تبوء بالفشل الكامل، لأن التغيير لابد أن يكون جزئيا وليس كليا. وشدد إن التقاليد السياسية لأية أمة لديها المنطق الداخلي الخاص بها، تفرض على الأمة أن تتطور طبقا لهذا المنطق الداخلي، بدلا من السعي إلى الرومانسية السياسية التي يمكن أن تكون مكلفة للغاية لبلد عظمى وكبرى مثل الصين. في الواقع حتى في بلد مثل بريطانيا التي لديها تاريخ أقصر بكثير من الصين، التزمت تماما بتقاليدها السياسية الخاصة، ولم تقبل أبدا النوع الفرنسي للديمقراطية السائد في معظم أوروبا. حتى إنني أتساءل عما إذا كان الاتحاد الأوروبي يستطيع أن يعمل بثلث سكان الصين فقط، لو أنه حكم تحت النظام السائد اليوم في الغرب، أي الانتخابات الشعبية ونظام التعددية الحزبية، إذا تبنى الاتحاد الأوروبي هذا النموذج، فإنه سيتحلل إلى فيل أبيض رمزي ليس لديه القدرة على دعم مصالح أوروبا الجماعية، أو أنه سيقع في حالة من الفوضى وينتهي بالتفكك والسعي وراء المصلحة الشخصية. ورأى تشانغ أن الاصلاح السياسي في الصين يعتمد على ثلاث قواعد، الأولى يجب أن يستمر الإصلاح تدريجيا فليس من الواقعي تصميم خطة رئيسية لا يوجد بها أخطاء، وفي الوقت نفسه تعتبر الرومانسية السياسية خطرا كبيرا على دولة حضارية مثل الصين، تتميز بالمئات من الدول داخل دولة واحدة، فيجب على بكين أن تضع في حسبانها الظروف الفعلية للبلاد، يجب عليها أن تتبع نظام خطوة بخطوة، وفي الوقت نفسه تجري تجارب وتشجع الناس على الابتكارات، وطالما اتبعت الصين هذا النهج والذي يقوم على فكرة "اكتشف طريقك بعناية" إن الاصلاح الاقتصادي الناجح في الصين سيكون هو الوسيلة ستعبر بها، مما يعني أنه في النهاية ستتمكن من وضع نظام جديد للديمقراطية. والثانية أنه ينبغي للاصلاح أن يكون قائمة على الحاجة، فينبغي للاصلاح أن يواكب مطالب الصين الداخلية بدلا من مطالب الدول الأخرى، حيث إن الاصلاح القائم على مطالب داخلية واقعية من الممكن أن يكون مفيدا وفعالا للشعب الصيني، والمطالب الداخلية الواقعية هي المطالب الحقيقية الناشئة من واقع الصين، والآن قد يكون من أهم مطالب الصين الداخلية هي تطوير نظام قادر على مكافحة الفساد وإنشاء نظام ديمقراطي داخل الحزب وحكومته ذات توجه خدمي. والثالثة هو الاهتمام بمستوى معيشة الشعب، إنني أؤمن بأن الاصلاح السياسي في الصين، ينبغي أن يخدم غرضا مهما، وهو تحسين مستوى معيشة الشعب بطريقة صحيحة وشاملة، والتي تتضمن تقديم خدمات أكثر وأفضل للشعب وضمان وتيرة حياة أفضل ومزيدا من الكرامة لهم. وخلص تشانغ إلى إن السبب الرئيسي لإخفاقات النموذج الديمقراطي الغربي في الدول النامية هو الديمقراطية من أجل الديمقراطية والإصلاح السياسي من أجل الإصلاح السياسي، والذي غالبا ما يكون مرهونا بشروط الغرب، وقد أدى هذا إلى اضطرابات سياسية داخلية لا حصر لها، من المصادمات العرقية والدينية وحتى الحروب بدلا من ضمان حياة أفضل للناس، وكبلد يبلغ تعداد سكانه أكبر من أربعة أمثال نظيره في الولايات المتحدة، وأكبر من التعداد الكلي للعالم الغربي، فلربما يكون نجاح التجربة الصينية في الاصلاح السياسي هو بمثابة نقطة تحول لإعادة تعريف أسس الديمقراطية والحكومة الناجحة، ولابد للتجربة الصينية في هذا الصدد أن يكون لها تأثير عالمي مستديم. محمد الحمامصي
مشاركة :