نظرت باتجاه النافذة وأنا جالس على كرسي هزاز داخل غرفتي، أراقب شعاع الشمس يتسلل ببطء من خلال النافذة إلى نواحي الغرفة يكشف عن سحر خاص، تتغير الغرفة كليا كأنها تبدلت بمجيئه. شعرت بالدفء والأمان فكانت الأيام السابقة منذ بداية فصل الشتاء شديدة البرودة وامتلكني شعاع الشمس امتلاكا كاملا، أغمضت عيني واستسلمت إليه. كانت الأمطار قد توقفت في الخارج بعد ان غسلت الشوارع المعبّدة ومسحت الغبار عن زجاج السيارات فبدت المدينة أنيقة ونظيفة. هنا لا شيء يتغير تقريباً، الأيام الأخيرة تمضي كالوباء تنثر الجراح، مضت خمسة وعشرون عاماً. عمر آخر، قطعته خروجاً عن الذات، بلا دافع يربطني مع الوجود، بلا سبب للحياة. تبدل حالي من النقيض إلى النقيض، غربة دفعت لأجلها ثمناً غالياً من عمري، أيام أخيرة تمتص ما تبقى من رحيق الحياة. أعد حقيبة سفري كل ليلة، وأتركها خلف الباب، وإلى ذلك الوقت، سأجمع ما تناثر من فتات حنيني حتى لا تنطفئ ذاكرتي، سأحدق في السماء السوداء منتظراً سقوط نجمة تضيء قلبي المختنق، ضائع بين كلمتين، غربة ووطن. عالق في الهواء كدخان سيجارة، كبقايا قهوة راكدة في فنجاني. في الغربة سر لا يعرفه العابرون في فوضى اشتهائها، سرٌ وحيد، لنعرفه علينا أن نتعلم فنون الغربة المجنونة. لقد سئمت كطائر قيدوه إلى غصن كالقوس في شجرة عملاقة، كعصافير الليل اليتيمة. سأغادر إلى وطني، سأركض كالمذبوح أرمم روحي. غريب أمر هذه الحياة، وأملها القاسي... فنحن نصدق كل أحلامنا وأوهامنا في الغربة، ونثق بما هو مبهم وغير واضح، رغم أن الحقيقة الوحيدة أننا نعاني فراق الأهل والوطن، نعالج الفراغات التي أحدثناها في أرواحنا برقع صغيرة من الوهم. وفجأة عدت إلى طرقاتي التي كنت اسلكها في قريتي الصغيرة، الشوارع والطرقات، ذاتها، بأشجارها العارية، ودموع المطر، عناويننا فقط، هي التي تغيرت، ملامحنا فقط، هي التي تغيرت، أمشي تارة، وأقف تارة، عقارب الساعة تشير الى الرابعة عصرا، لم تشرق الشمس بعد، فمنذ الصباح تحجبها الغيوم، بعد دقائق قليلة ظهر قرص الشمس، في قرص الشمس كنت أري حبيبتي من ملكات العهد القديم، هي ترى نفسها قريبة الشبه من الملكة إيزيس، لم تنطق باسمي على شفتيها منذ زمن، سمعتها تنادي عليا مرات في نهاية الطريق، وصلت الى داري وقد تصدعت الجدران وتهالكت الأساسات وتبدلت الأركان، استندت على الحائط، وجلت بنظري الى كل أنحاء الدار، استعيد ذكرياتي، وليالي طويلة مصحوبة بدموع الفرح ودموع الفراق، مع نسمات الفجر، أتقلب في فراشي جهة اليمين وجهة الشمال، كان هذا أضغاث أحلام
مشاركة :