علي القميش:في عمله الروائي البكر «اريامهر نامه.. سيرة نور الآريين»، يبحرُ الروائي عقيل الموسوي، في بحرٍ لجي، عميقُ من حيث تاريخه الذي يعود إلى منتصف القرن السادس قبل الميلاد، وصولاً إلى الحاضر، ومتلاطم لكثرة الأحداث التأريخية التي أنتجت بتعقيداتها الكثير من النتائج المعقدة هي الأخرى، والتي تستدعي نباهة لتفكيكها، والوقوف على مجرياتها. في هذا الحوار، نستفهم عدداً من هذه الموضوعات، ونستكشف ذلك العشق الذي ربط المؤلف بالتاريخ، ليغدو بحاراً في مياهه العميقة، وأمواجه المتلاطمة.] أن عشقك للتاريخ قد تمثل في بادئ الأمر في صيغة مشابهة لاشتغالات الرحالة وعلى طريقة «أدب الرحلات» خصوصاً الإثنوغرافيين منهم، وكان ذلك يتمثل عبر التصوير الفوتوغرافي، فهل ممكن لك أن تضعنا في سيرة تلك التجربة، كي تكون مدخلاً للحديث عن روايتك البكر «اريامهرنامه.. سيرة نو ر الآريين»؟ أولاً أحب أن أعترف أن عشقي للتاريخ تسرب في حياتي شيئاً فشيئاً حتى احتلها بأكملها. هواية جمع الطوابع لم تعطني كل ما أبحث عنه، لأن الطوابع لا تذهب بعيداً في كشف تاريخ الدول، فأول طابع بريدي صدر في العالم كان في العام 1840م، لذلك بدأت ألاحق التاريخ في العملات التي أخذتني عميقاً إلى الممالك القديمة، حتى أوصلتني إلى ما قبل الإسلام. التصوير الفوتوغرافي هو الآخر تبدل في حياتي من عالم ممتع ألاحق فيه الألوان، وأتربص لحظات معينة أكوّن فيها فني الخاص، تبدل ذلك إلى وسيلة لتوثيق حياة الشعوب التي أزورها. تنازلت عن آلتي الاحترافية الكبيرة، وحملت كاميرا صغيرة، وأهملت الجوانب التقنية في صوري من أجل خفة في حركة السفر، ومن أجل قصص أكثر تلقائية من الناس الذين أصورهم. الغرباء يتوجسون أمام كاميرا ضخمة وعدسة طويلة، ويرتاحون أمام سائح يبدو شخصاً عادياً. كانت متعتي في السفر والتصوير واستكشاف الدول، وبعدها وجدت متعة أكثر في الكتابة. كنت اختصر كثيراً لتظهر الدراسة في شكل مقال طويل موثق بالصور. وللأسف، لا ينظر للصورة في المقال إلا أنها زائدة، يحاول المحررون التخلص منها لتوفير مساحات أكثر للكلمات. كان حذف الصور من مقالاتي يزعجني كما لو أن أحدهم قطع جزء من لوحة فنية على مزاجه الخاص. في الأخير، رحبت بي «مجلة البحرين الثقافية»، ونشرت معظم تلك الدراسات، بصورها كلها دون أي حذف. أتذكر إنك أول من أطلق على مقالاتي مصطلح «أدب الرحلات» وراق لي الاسم يومها، مع أنه يوحي ويشبّه أعمالي بقصص الرحالة الكلاسيكيين «ماركو بولو» و«ابن بطوطة». وربما توصيفك الحالي لها كـ «دراسات إثنوغرافية»أكثر دقة، فقد كان هاجسي الدائم في جميع الدراسات التي نشرتها هو الهوية وإشكالاتها السياسية المعقدة في الدول التي تشكلت حديثاً، الهند وتركيا وقبرص وإيران. وهناك تجارب في بلدان كثيرة ضاعت بدون توثيق لأني ما شغلت نفسي يومها بالكتابة، ولا أدري إذا كنت سأرجع لها يوماً وأقف أمام صوري وملاحظاتي في الكتب. كان ذلك كله جزءاً من شغفي الذي يشبه مشروع شخصي كبير لاستكشاف العالم كله، وبالأخص الدول القديمة والتي أعادت بناء نفسها من جديد بعد الحرب العالمية الثانية.] لماذا هذا الانزياح لخيار كتابة الرواية التاريخية، لا التاريخ نفسه، خصوصاً وانك قد قدمت نفسك في ميدان الكتابة كمشتغل في الكتابة التاريخية والبحث في تفاصيلها، وأنا اذكر جيدًا تلك المقالة التي عنونتها بـ «جناحا الهند رحلة في تواريخ الهند المثقلة بالتسامح والحب و الشقاء»؟ كنت أعرف أني سأبدأ الكتابة في نهاية حياتي، على الأقل لو أكتب سيرتي الذاتية. لكن إيران جذبتني بحضارتها العظيمة، اقتحمت اهتماماتي، وغيرت من قناعاتي، وعجلت بأحلامي المؤجلة. وعندما رحت أتقصى الهوية الإيرانية وجدتها معقدة وشائكة ولا يمكن الحديث عنها في مقال. بدأت في البحث ولم أكن أعرف كيف سيكون الشكل النهائي لذلك العمل الذي أخذ يتضخم ويتشعب في الديانة القديمة، الزرادشتية، واللغة القديمة، البهلوية، والدول التي اهتمت بالقومية الإيرانية وأهمها الدولتان الصفوية والبهلوية. كانت تلك البحوث التاريخية ستكون كتاب تاريخ عادي، ونصحني الصديق د. نادر كاظم أن أتناولها في رواية، فسحرتني الفكرة، وبدأت عملية تحول كبيرة، تحول من كاتب إلى روائي، وسرعان ما اكتشفت أن الرواية هي أنسب شكل أدبي، في حالتي هي أنسب من البحث التاريخي، في أخذ موقعٍ لا يتماثل مع السياسة والقومية والمذهب والجماعة. ولأن الرواية التاريخية كانت وما تزال الأدب الأقرب إلى قلبي، و«أمين معلوف» هو الروائي المفضل لدي، فمضت مخيلتي تبتكر الشخصيات وتحركها في أهم حقب إيران السياسية، وعلى جغرافية فارس الممتدة. ولكثر ما قرأت قصص غريبة في شاهنامة «الفردوسي»، انفتح عقلي على خيالات لا حد لها. وللحق أقول إنني كنت حريصاً جداً أن يبقى التاريخ بعيداً عن تخيالاتي، وكنت أميناً عليه وكأنه نص مقدس. ولا أنكر أنه عندما تختلف الروايات في حادثة معينة، وهي ظاهرة متكررة في التاريخ، فإنني بقراءتي الخاصة أخترت الروايات الأكثر اقناعاً وقبولاً، لكني لم أتجاسر على تغيير التاريخ وتجييره لمسار روايتي. كان لابد لشخصيات من خيال أقول رأيي الخاص فيما حدث على لسانهم، والحصيف يعرفهم في الرواية بسهولة. لقد مزجت الخيال بالتاريخ كما هو معهود في الروايات التاريخية، وما تصورتُ أن القارئ سيهتم ويرجع يسأل بإلحاح ليرسم خطاً واضحاً ويفصل التاريخ عن الخيال. هل قابل المؤلف الشاهبانو حقاً؟ هل «ذكاء الملك» شخصية وهمية؟ ما هو الاسم الحقيقي للبروفسور؟ هذه أكثر الأسئلة التي طرحها القراء. يحاولون بها تفكيك عملي الروائي. ولا تتصور أنني سأعترف لك هنا بشيء. الرواية تضع القاريء في عالم متخيل، وتسمح له أيضاً أن يتخيل ويتذكر أحداث التاريخ التي يعرفها، ولن أفسد على أحد القراءة في ذلك العالم الجميل.] الرواية التاريخية لها شروط صارمة، فهي تلزم المشتغلين فيها بأبحاث طويلة ودقيقة كي يكون الكاتب اميناً على سردياتها ومروياتها التاريخية، كيف كان اشتغالك في هذا الخصوص، خصوصاً واني من بين كثيرين من القراء، كان وسط ذلك التلقي الحائر بين حقيقة المعلومة التاريخية ومتخيل السرد الروائي، خصوصا وانك قصدت منطقة تاريخية معقدة وشائكة في تفاصيلها وهي إيران؟ كما قلت قبل قليل، كان التاريخ محمياً من ألعابي السردية، خاصة أني قضيت وقتاً طويلاً أرتبه في أوراقي. في الرواية بحوث تاريخية مهمة لم أكن مستعداً للتفريط فيها من أجل تقنيات سردية رخيصة. فاجأتني الماسونية وتغلغلها في الدولة البهلوية، وكان لا بد من وقفة خاصة لها. وعند الحديث عن الماسونية، لا يسع أي كاتب أن يدعي أنه يقف على أرضية ثابتة، ولا أجزم أني أعرف كل أسرارهم، لكني قدمت قراءة تاريخية للماسونية بدت لي الأكثر موضوعية من بقية نظريات المؤامرة المكررة، والنظريات التي لا يقبلها عاقل. وأتفق معك أن إيران منطقة شائكة، والكتّاب إما يرفعوها إلى منزلة الملائكة، أو يحطوا من قدْرها وكأنها شيطان، حسب توصيف د. نادر كاظم. كان على أن أسير سيرة البحث العلمي الرصين، لذا لجأت إلى استنطاق أكثر من راوٍ في الرواية، فالقارئ أمام وجهات نظر متباينة وعليه أن يفكر قليلاً ويجتهد برأيه ليفهم ما حدث هناك. في قضايا إيران المصيرية مثل تأميم النفط والأوربة السريعة للمجتمع، لم أعطِ لنفسي الحق لأكون حكماً على أحداث أو شخصيات معينة وأفرض رأيي على القارئ، ووجدتها كذلك حيلة سردية مناسبة لأضافة مشاعر إنسانية لكل راوٍ بحيث لا يبدو «الرواي العليم» في تناقض مع نفسه، ولا أعرف إلى أي حد توفقت في ذلك، أحب أن أعرف رأي النقاد. ولأنني تناولت تاريخاً يبدأ من الدولة الأخمينية، خمسة قرون قبل الإسلام، وينتهي في أحداث الربيع العربي، فكان لابد من حيلة الأزمان المتعددة وخلق عدة أبطال، داخل الدولة البهلوية وخارجها. في البداية، فكرت في استخدام الدولة الصفوية خلفية تاريخية للرواية، لكن أحداث الربيع العربي فرضت عليّ أن أميل أكثر إلى الدولة البهلوية للتشابه الكبير بينها وبين الأنظمة العربية من حيث وجود النفط، وهيمنة الغرب، ووجود الأنظمة القديمة، والمؤسسة الدينية المحافظة. تصور لو كان الشاه إسماعيل، مؤسس الدولة الصفوية، هو بطل هذه الرواية؟ يمكنك أن تتخيل شخصية «البروفسور» يحل مكانها طالب في حوزة شيعية في مدينة قم، والشاهبانو تكون جارية في البلاط الصفوي، وبدل أحداث الربيع العربي تحل حروب الفرس مع العثمانيين. هل تلاحظ؟ التخيلات لا نهاية لها! كان الفردوسي ملهماً لي! أما بالنسبة للخيال، فكان واسعاً في «اريامهر نامه»، ومع أن القراء يعرفون الدولة البهلوية ورجالها وأحداثها، رغم ذلك فاجأتهم الرواية بقصص لا يعرفونها وتصوروها من خيالي، حاصرني كثيراً منهم بالأسئلة يريدون تفكيك «الخيالي» من «التاريخي» في الرواية، وهناك أيضاً «الإسطوري» المشبوك في ثنايا الأحداث ولا تنفيه الرواية. نشر «أمبرتو إيكو» روايته «اسم وردة» واخترع خيالاً تدور أحداثه في دير من مخيلته، ثم قال بعد سنوات في كتابه «اعترافات روائي ناشئ»: إن الذين كلفوا أنفسهم عناء البحث عن الدير الحقيقي هم بالتأكيد قراء سذج. ينبغي أن ينظر للعمل الروائي على أنه لوحة متكاملة، والخيال المنسوج في الرواية التاريخية هو جزء مهم في الرواية، وليس في التاريخ، وبدون هذا الخيال تكون الرواية بحثاً تاريخياً لا غير. اعتقد أن خيال القارئ مهم ومتمم لخيال المؤلف، أما بالنسبة للحيرة التي تنتابهم بين الخيال والواقع فمن الأفضل لهم أن يعتبروها جزءًا من متعة القراءة.
مشاركة :