«اريامهرنامه» تحكي قصة «فرح ديبا» والثورة التي دمرت مشروع إيران الحديثة

  • 11/18/2017
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

علي القميش:في عمله الروائي البكر «اريامهر نامه.. سيرة نور الآريين»، يبحرُ الروائي عقيل الموسوي، في بحرٍ لجي، عميقُ من حيث تاريخه الذي يعود إلى منتصف القرن السادس قبل الميلاد، وصولاً إلى الحاضر، ومتلاطم لكثرة الأحداث التأريخية التي أنتجت بتعقيداتها الكثير من النتائج المعقدة هي الأخرى، والتي تستدعي نباهة لتفكيكها، والوقوف على مجرياتها. في هذا الحوار، نستفهم عدداً من هذه الموضوعات، ونستكشف ذلك العشق الذي ربط المؤلف بالتاريخ، ليغدو بحاراً في مياهه العميقة، وأمواجه المتلاطمة.] أن عشقك للتاريخ قد تمثل في بادئ الأمر في صيغة مشابهة لاشتغالات الرحالة وعلى طريقة «أدب الرحلات» خصوصاً الإثنوغرافيين منهم، وكان ذلك يتمثل عبر التصوير الفوتوغرافي، فهل ممكن لك أن تضعنا في سيرة تلك التجربة، كي تكون مدخلاً للحديث عن روايتك البكر «اريامهرنامه.. سيرة نو ر الآريين»؟ أولاً أحب أن أعترف أن عشقي للتاريخ تسرب في حياتي شيئاً فشيئاً حتى احتلها بأكملها. هواية جمع الطوابع لم تعطني كل ما أبحث عنه، لأن الطوابع لا تذهب بعيداً في كشف تاريخ الدول، فأول طابع بريدي صدر في العالم كان في العام 1840م، لذلك بدأت ألاحق التاريخ في العملات التي أخذتني عميقاً إلى الممالك القديمة، حتى أوصلتني إلى ما قبل الإسلام. التصوير الفوتوغرافي هو الآخر تبدل في حياتي من عالم ممتع ألاحق فيه الألوان، وأتربص لحظات معينة أكوّن فيها فني الخاص، تبدل ذلك إلى وسيلة لتوثيق حياة الشعوب التي أزورها. تنازلت عن آلتي الاحترافية الكبيرة، وحملت كاميرا صغيرة، وأهملت الجوانب التقنية في صوري من أجل خفة في حركة السفر، ومن أجل قصص أكثر تلقائية من الناس الذين أصورهم. الغرباء يتوجسون أمام كاميرا ضخمة وعدسة طويلة، ويرتاحون أمام سائح يبدو شخصاً عادياً. كانت متعتي في السفر والتصوير واستكشاف الدول، وبعدها وجدت متعة أكثر في الكتابة. كنت اختصر كثيراً لتظهر الدراسة في شكل مقال طويل موثق بالصور. وللأسف، لا ينظر للصورة في المقال إلا أنها زائدة، يحاول المحررون التخلص منها لتوفير مساحات أكثر للكلمات. كان حذف الصور من مقالاتي يزعجني كما لو أن أحدهم قطع جزء من لوحة فنية على مزاجه الخاص. في الأخير، رحبت بي «مجلة البحرين الثقافية»، ونشرت معظم تلك الدراسات، بصورها كلها دون أي حذف. أتذكر إنك أول من أطلق على مقالاتي مصطلح «أدب الرحلات» وراق لي الاسم يومها، مع أنه يوحي ويشبّه أعمالي بقصص الرحالة الكلاسيكيين «ماركو بولو» و«ابن بطوطة». وربما توصيفك الحالي لها كـ «دراسات إثنوغرافية»أكثر دقة، فقد كان هاجسي الدائم في جميع الدراسات التي نشرتها هو الهوية وإشكالاتها السياسية المعقدة في الدول التي تشكلت حديثاً، الهند وتركيا وقبرص وإيران.وهناك تجارب في بلدان كثيرة ضاعت بدون توثيق لأني ما شغلت نفسي يومها بالكتابة، ولا أدري إذا كنت سأرجع لها يوماً وأقف أمام صوري وملاحظاتي في الكتب. كان ذلك كله جزءاً من شغفي الذي يشبه مشروع شخصي كبير لاستكشاف العالم كله، وبالأخص الدول القديمة والتي أعادت بناء نفسها من جديد بعد الحرب العالمية الثانية.] لماذا هذا الانزياح لخيار كتابة الرواية التاريخية، لا التاريخ نفسه، خصوصاً وانك قد قدمت نفسك في ميدان الكتابة كمشتغل في الكتابة التاريخية والبحث في تفاصيلها، وأنا اذكر جيدًا تلك المقالة التي عنونتها بـ «جناحا الهند رحلة في تواريخ الهند المثقلة بالتسامح والحب و الشقاء»؟ كنت أعرف أني سأبدأ الكتابة في نهاية حياتي، على الأقل لو أكتب سيرتي الذاتية. لكن إيران جذبتني بحضارتها العظيمة، اقتحمت اهتماماتي، وغيرت من قناعاتي، وعجلت بأحلامي المؤجلة. وعندما رحت أتقصى الهوية الإيرانية وجدتها معقدة وشائكة ولا يمكن الحديث عنها في مقال. بدأت في البحث ولم أكن أعرف كيف سيكون الشكل النهائي لذلك العمل الذي أخذ يتضخم ويتشعب في الديانة القديمة، الزرادشتية، واللغة القديمة، البهلوية، والدول التي اهتمت بالقومية الإيرانية وأهمها الدولتان الصفوية والبهلوية. كانت تلك البحوث التاريخية ستكون كتاب تاريخ عادي، ونصحني الصديق د. نادر كاظم أن أتناولها في رواية، فسحرتني الفكرة، وبدأت عملية تحول كبيرة، تحول من كاتب إلى روائي، وسرعان ما اكتشفت أن الرواية هي أنسب شكل أدبي، في حالتي هي أنسب من البحث التاريخي، في أخذ موقعٍ لا يتماثل مع السياسة والقومية والمذهب والجماعة. ولأن الرواية التاريخية كانت وما تزال الأدب الأقرب إلى قلبي، و«أمين معلوف» هو الروائي المفضل لدي، فمضت مخيلتي تبتكر الشخصيات وتحركها في أهم حقب إيران السياسية، وعلى جغرافية فارس الممتدة. ولكثر ما قرأت قصص غريبة في شاهنامة «الفردوسي»، انفتح عقلي على خيالات لا حد لها. وللحق أقول إنني كنت حريصاً جداً أن يبقى التاريخ بعيداً عن تخيالاتي، وكنت أميناً عليه وكأنه نص مقدس. ولا أنكر أنه عندما تختلف الروايات في حادثة معينة، وهي ظاهرة متكررة في التاريخ، فإنني بقراءتي الخاصة أخترت الروايات الأكثر اقناعاً وقبولاً، لكني لم أتجاسر على تغيير التاريخ وتجييره لمسار روايتي. كان لابد لشخصيات من خيال أقول رأيي الخاص فيما حدث على لسانهم، والحصيف يعرفهم في الرواية بسهولة. لقد مزجت الخيال بالتاريخ كما هو معهود في الروايات التاريخية، وما تصورتُ أن القارئ سيهتم ويرجع يسأل بإلحاح ليرسم خطاً واضحاً ويفصل التاريخ عن الخيال. هل قابل المؤلف الشاهبانو حقاً؟ هل «ذكاء الملك» شخصية وهمية؟ ما هو الاسم الحقيقي للبروفسور؟ هذه أكثر الأسئلة التي طرحها القراء. يحاولون بها تفكيك عملي الروائي. ولا تتصور أنني سأعترف لك هنا بشيء. الرواية تضع القاريء في عالم متخيل، وتسمح له أيضاً أن يتخيل ويتذكر أحداث التاريخ التي يعرفها، ولن أفسد على أحد القراءة في ذلك العالم الجميل.] الرواية التاريخية لها شروط صارمة، فهي تلزم المشتغلين فيها بأبحاث طويلة ودقيقة كي يكون الكاتب اميناً على سردياتها ومروياتها التاريخية، كيف كان اشتغالك في هذا الخصوص، خصوصاً واني من بين كثيرين من القراء، كان وسط ذلك التلقي الحائر بين حقيقة المعلومة التاريخية ومتخيل السرد الروائي، خصوصا وانك قصدت منطقة تاريخية معقدة وشائكة في تفاصيلها وهي إيران؟ كما قلت قبل قليل، كان التاريخ محمياً من ألعابي السردية، خاصة أني قضيت وقتاً طويلاً أرتبه في أوراقي. في الرواية بحوث تاريخية مهمة لم أكن مستعداً للتفريط فيها من أجل تقنيات سردية رخيصة. فاجأتني الماسونية وتغلغلها في الدولة البهلوية، وكان لا بد من وقفة خاصة لها. وعند الحديث عن الماسونية، لا يسع أي كاتب أن يدعي أنه يقف على أرضية ثابتة، ولا أجزم أني أعرف كل أسرارهم، لكني قدمت قراءة تاريخية للماسونية بدت لي الأكثر موضوعية من بقية نظريات المؤامرة المكررة، والنظريات التي لا يقبلها عاقل. وأتفق معك أن إيران منطقة شائكة، والكتّاب إما يرفعوها إلى منزلة الملائكة، أو يحطوا من قدْرها وكأنها شيطان، حسب توصيف د. نادر كاظم. كان على أن أسير سيرة البحث العلمي الرصين، لذا لجأت إلى استنطاق أكثر من راوٍ في الرواية، فالقارئ أمام وجهات نظر متباينة وعليه أن يفكر قليلاً ويجتهد برأيه ليفهم ما حدث هناك. في قضايا إيران المصيرية مثل تأميم النفط والأوربة السريعة للمجتمع، لم أعطِ لنفسي الحق لأكون حكماً على أحداث أو شخصيات معينة وأفرض رأيي على القارئ، ووجدتها كذلك حيلة سردية مناسبة لأضافة مشاعر إنسانية لكل راوٍ بحيث لا يبدو «الرواي العليم» في تناقض مع نفسه، ولا أعرف إلى أي حد توفقت في ذلك، أحب أن أعرف رأي النقاد. ولأنني تناولت تاريخاً يبدأ من الدولة الأخمينية، خمسة قرون قبل الإسلام، وينتهي في أحداث الربيع العربي، فكان لابد من حيلة الأزمان المتعددة وخلق عدة أبطال، داخل الدولة البهلوية وخارجها. في البداية، فكرت في استخدام الدولة الصفوية خلفية تاريخية للرواية، لكن أحداث الربيع العربي فرضت عليّ أن أميل أكثر إلى الدولة البهلوية للتشابه الكبير بينها وبين الأنظمة العربية من حيث وجود النفط، وهيمنة الغرب، ووجود الأنظمة القديمة، والمؤسسة الدينية المحافظة. تصور لو كان الشاه إسماعيل، مؤسس الدولة الصفوية، هو بطل هذه الرواية؟ يمكنك أن تتخيل شخصية «البروفسور» يحل مكانها طالب في حوزة شيعية في مدينة قم، والشاهبانو تكون جارية في البلاط الصفوي، وبدل أحداث الربيع العربي تحل حروب الفرس مع العثمانيين. هل تلاحظ؟ التخيلات لا نهاية لها! كان الفردوسي ملهماً لي! أما بالنسبة للخيال، فكان واسعاً في «اريامهر نامه»، ومع أن القراء يعرفون الدولة البهلوية ورجالها وأحداثها، رغم ذلك فاجأتهم الرواية بقصص لا يعرفونها وتصوروها من خيالي، حاصرني كثيراً منهم بالأسئلة يريدون تفكيك «الخيالي» من «التاريخي» في الرواية، وهناك أيضاً «الإسطوري» المشبوك في ثنايا الأحداث ولا تنفيه الرواية. نشر «أمبرتو إيكو» روايته «اسم وردة» واخترع خيالاً تدور أحداثه في دير من مخيلته، ثم قال بعد سنوات في كتابه «اعترافات روائي ناشئ»: إن الذين كلفوا أنفسهم عناء البحث عن الدير الحقيقي هم بالتأكيد قراء سذج. ينبغي أن ينظر للعمل الروائي على أنه لوحة متكاملة، والخيال المنسوج في الرواية التاريخية هو جزء مهم في الرواية، وليس في التاريخ، وبدون هذا الخيال تكون الرواية بحثاً تاريخياً لا غير. اعتقد أن خيال القارئ مهم ومتمم لخيال المؤلف، أما بالنسبة للحيرة التي تنتابهم بين الخيال والواقع فمن الأفضل لهم أن يعتبروها جزءًا من متعة القراءة.] الدولة البهلوية وفكرة الانتصار لها في سياقات ومفاصل كثيرة داخل الرواية، والإشارة إلى ما يمكنه أن يشي باِنهيار المشروع الذي كان يمكنه أن يشكل إيران الحديثة، والتي تمظهرت في حديثك من خلال مذكرات «الشاهبانو» فرح ديبا، التي كانت تتحدث عن انجازات الدولة البهلوية ودفاعها عن كل تلك الإخفاقات التي كان يعيشها حكم الشاه محمد رضا بهلوي، في قبالة عدم الاكتراث من قبل العالم والمراقبين والصحافة كما أشرت حتى في حفل التدشين الذي أقمته في «غاليري عباس الموسوي»، ألا ترى بأن ذلك قد ذهب بك خلال الرواية نحو تلك الذهابات العاطفية مبتعداً عن منطق الرواية التاريخية، هل بإمكانك تفسير ذلك الانحياز؟ بدايةً، لنتفق على بعض الأمور. بالنسبة لي كان الحدث الأعظم في تاريخ إيران في القرن العشرين هو ثورة الدستور عام 1906م، والتي وضعت إيران على مسار الدول الحديثة، ألغت الملكية القديمة، وأسست لملكية دستورية حديثة، بعدها استفاد البهلويون من ضعف القاجاريين، وخطفوا الحكم بانقلاب عسكري وأرجعوا الحكم الاستبدادي. ورغم تحفظي على الدولة البهلوية إلا أنه لا يمكن لأي باحث أن يلغي إنجازاتهم في بناء الدولة الحديثة في نواحي التعليم والصحة، وتنظيم الاقتصاد والعملة، وتحرير المرأة من كثير من قيود الشرق، والسعي نحو بناء هوية إيرانية عصرية تنفصل تدريجياً عن تلك التقليدية القديمة والمحافظة. حكم البهلويون من العام 1925 حتى 1979م، وكان الحكم يتذبذب بين الانفتاح والانغلاق، بين الديموقراطية والاستبداد، حسب أهواء الغرب والتحديات التي تهدد القصر البهلوي، فليس من السهل الحكم على أكثر من نصف قرن من الدولة البهلوية بكلمة واحدة، لكن القارئ البسيط ينتظر مني تلك الاجابة، ويلح عليها، بعضهم لامني، يريد مني اجابة جازمة، أن أشير له في الرواية مرة إلى الأشرار ومرة أخرى إلى الأخيار. أليس روح الرواية هو روح التعقيد؟ «اريامهر نامه» لا تبسط أحداث إيران، تقول للقارئ إن الأشياء أكثر تعقيداً مما يظن، وتأخذه في رحلة تاريخية غير منحازة، وعند بعض الفترات الحساسة والشخصيات المعقدة على القارئ أن يشكل لنفسه رأياً بنفسه، خذ مثلاً شخصية محمد علي فروغي أو «ذكاء الملك»، وهي شخصية حقيقية، رجل دولة من الطراز الأول، وهو الداهية وراء بناء إيران الحديثة، لكنه ملكي حتي النخاع أنقذ التاج البهلوي مرتين، وهو كذلك ماسوني، ويختلف الإيرانيون والبهلويون في حبه وكرهه، ولم تقدم الرواية حكماً نهائياً على هذا الرجل، هناك عدة أوصاف له، وهذا الأمر قد يحير القارئ بعض الشيء. إن التفاهم بين الروائي والقارئ يجب أن يتوطد منذ البداية، لهذا لم اقتبس كلمة مولانا جلال الدين الرومي في بداية الرواية اعتباطاً: «ليس في العالم شر مطلق، إنما هو نسبي»، روايتي تدفع القارئ لبعض التفكير في الأيديولوجيات التي تسيدت المشهد السياسي في إيران، تسلط له الأضواء على الأحداث، وتتركه يفكر ويشكل قناعاته بنفسه. الغريب أن هذا الأسلوب جعل الرواية تروق لمناصري الملكية ولمناصري الثورة الإسلامية على حد سواء، رغم أن ذلك لم يكن من أهداف الرواية، فما كتبت إلا من أجل الخروج للعالم برواية تختلف عن روايات أنظمة الحكم الرسمية. أما بالنسبة للرواية التاريخية فأعتقد أني التزمت بشروطها الصارمة في زمن الاستذكار، في تناولي لإيران في العصور الوسطى، السلاجقة والصفويين، وفي دولها القديمة، الأخمينية والساسانية، أما في زمن الدولة البهلوية فكان الأمر مختلف، لأنها دولة حديثة، وشخصية الشاهبانو التي اخترتها لتكون الشاهد والمدافع عنها ليست تاريخية بالمعني الكلاسيكي، الملكة شخصية معاصرة ولها امتداد حاضر في المعارضة الملكية لنظام الجمهورية الإسلامية. وتفاصيل الرواية ودخول البطل إلى شقة الشاهبانو، وبكاء الشاهبانو أمامه لم يكن رخيصاً مثلما نشاهد ونسمع في أسئلة الصحفيين المبتذلة، كان ذلك مهماً من أجل فهمها كمغتربة ومنفية عن بلادها، وفهم حبها الكبير الذي لم ينهه الموت. ذهبت الرواية إلى باريس لأنها أرادت أن تسمع وجهة نظر البهلويين ووجهة نظر المعارضة في الخارج، فظهر منطق آخر للرواية هو لسان الشاهبانو. لدى الناس استعداد ونزعة راسخة للحكم على الشخصيات بشكل فوري بأحكام مسبقة ودون فهم، ولم تنجرف الرواية لتلك الأحكام المحمومة فيما يخص الشاهبانو، وإذا كان يناسب الناس أن تدين الشاهبانو فهذا شأنها، وأنا كروائي لا علاقة لي بذلك. وعن شكل العلاقة بين الروائي وشخصيات روايته يقول ميلان كونديرا: «علاقة الروائي الحقيقي بشخصيات روايته ليست هجائية أبداً، بل تهكمية»، ويضيف:«التهكم يعني أنه لا يمكن لأي رأي وتأكيد في الرواية أن يؤخذ معزولاً عن غيره». والقراءة المتأنية وحدها ستكشف للقارئ عن كل العلاقات التهكمية في «اريامهر نامه». هذا إلى جانب أنني وجدت أنه لا يمكن لبطل الرواية أن يتراسل مع الشاهبانو شهور بعد انتحار ابنها دون أن يبدي لها تعاطفاً لمأساتها، سيكون ذلك فجاً وغير أخلاقي، ولن يستسيغه القارئ، حتى ذلك القارئ المعادي للملكية لن يتقبله من ناحية إنسانية.] إلى أي مدى كانت الرواية تعيد اجترار تلك المذكرات التي وضعتها «الشاهبانو» فرح ديبا /‏ بهلوي، وحتى تلك الأفلام الوثائقية التي تم تسجيلها عن حياتها بعد انهيار دولة الشاه، وهل كانت هي فقط المرتكز الأساس في تشكيل بنية الرواية، أم أن المتخيل كان حاضراً بنسبة ما في اختلاق وخلق فضاء الرواية؟ تناولت الرواية سيّر رجالات إيران في القرن العشرين، واستعرضت بعضاً من كتبهم ومذكراتهم كأحداث مهمة، فالكتابة سمة الأذكياء، وفضّلت ألا تهمل الرواية ما كتبوه، ولكن ليس لتجتر ما قالوه، للرواية مسار يختلف عن مسار تلك الكتب المكتوبة لأهداف سياسية محددة، «اريامهر نامه» كشفت باختصار ما كتبوه كحدث ذكي لا غير. الشاه محمد رضا بهلوي كتب عدة كتب أهمها خمسة، ثلاثة قبل نهاية حكمه، وكانت بعض تلك الكتب تنشر في الجرائد الرسمية في زمن لا توجد فيه أية أحزاب. في الستينات، كان كتاب «مهمة لبلادي» يمثل باختصار أفكار الشاه وبرامجه السياسية، اهتمت به الرواية كآيديولوجية حزبية، لكن في السبعينات، عندما أسس الشاه حزبه «راستاخيز»، تركت الرواية كتب الشاه وتحولت إلى أدبيات الحزب. في الحقيقة، لم أهتم لأشاهد كثيراً من الأفلام الوثائقية عن البهلويين، أهم الأفلام بالنسبة لي كان حفل التتويج عام 1967م، ومقابلات الشاهبانو التلفزيونية، وتفاجأت بعد نشر الرواية كم كان القراء مهتمين لتلك الأفلام وأرسلوا لي كثيراً منها، معظمها لم أشاهدها. أنا بطبعي أميل للكتاب أكثر، هو مصدر المعرفة الأساسي بالنسبة لي، وقد أكون مقصراً مع الوثائقيات. بالنسبة للمكان، أشعر أني أخون القارئ عندما أكتب عن مكان لم أزره، التاريخ والجغرافيا عندي مرتبطان، ربما لأني كاتب مبتدئ، أجد في استكشاف الأمكنة متعة كبيرة تعادل ربما متعة الكتابة.] الرواية بالنسبة لي، كانت أشبه بعراك بين أفكار ومتخيل الراوي بنسبة ما و بين تلك السرديات السيرية التي تداخلت فيها ذاتية الكاتب وقراءته الخاصة ربما، لكل تلك القضايا المعقدة التي عاشتها الدولة البهلوية مثل بزوغ الحراك الشعبوي، مصدق وحكايا الانقلابات التي شهدتها إيران، الصور التي رسمت لدكتاتورية الشاه، وطبيعة تعامله مع معارضيه فنظامه لم يكن أقل سوءا من حكم الملالي بحسب توصيف البعض، النفط و الشركات المشبوهة …الخ، أنا هنا سأقف عند مفصل الحراك الماسوني الذي قدم في الرواية على إنه سبب في انهيار مشروع الدولة الحديثة، ليكون السؤال عما إذا كانت تلك قراءة من قبلك أم إنها افتراض؟ كما قلت سابقاً، «اريامهر نامه» تتطلب من القارئ جهداً في التفكير، لا توجد فيها أحكام جاهزة، وليست هناك ميول أيديولوجية تدفع القارئ ليتعاطف مع فئة معينة، وقد يجد القارئ صعوبة في تعاطفه مع أطراف متناقضة في نفس الوقت، مثل تعاطفه مع الشاهبانو وضحايا الثورة في الجمعة السوداء، أو تعاطفه مع ذكاء الملك الماسوني مع الملالي الذين عذبهم ضباط السافاك.نعم هناك عراك بين الأفكار، عراك يتخلله تحليل، واستعراض أوسع مما تحاول كل فئة مؤدلجة أن تختصره، المؤدلجون قصيرو نظر ولديهم تفسيرات بسيطة ومختصرة على نحو عبيط لما حدث في إيران، مثلاً هناك أولئك الذين يبسطون الأمور حسب أهوائهم ويؤمنون أن الثورة الإسلامية ما نجحت إلا بمساعدة الأمريكان، وهناك أولئك الذين يجزمون بنصر الخميني المؤزر فقط لاتصاله بالإمام المهدي، جميع أولئك المؤدلجون بشدة لن يجدوا في رواية «اريامهر نامه» إلا ضجيجاً مزعجاً وصراعاً لن يعرفوا من المذنب فيه. من المنطقي أن يكون للرواية التاريخية قواعد صارمة، وفي «اريامهر نامه» ألزمت نفسي ألا أغير من أحداث التاريخ، كما قلت سابقاً بالنسبة لي التاريخ نص مقدس، لا يجب أن يخضع لحبكة الرواية أو شخوصها بل بالعكس، ويطربني أن أسمع التعبير «رواية تتكأ على التاريخ»، في الأخير يكفي التاريخ ما أصابه من تحريف وتزوير. وفي الوقت نفسه، ليست الراوية التاريخية سرداً جامداً لأحداث التاريخ، هناك رأياً ملحاً يحتم علينا زيارة التاريخ. أردت في «ايامهر نامه» أن أرد الاعتبار للدولة الأخمينية المنسية التي قامت قبل الاسكندر الاكبر، ويعتبرها كثيرون، وأهمهم الفيلسوف الألماني هيجل، في كتابه فلسفة التاريخ، يعتبره البداية الحقيقية لوعي الانسان لإرادته، وذلك بعد الإيمان بتعليمات الديانة الزرادشتية، التي أعطت لأول مرة في التاريخ، أهمية لأفعال الانسان وإرادته التي صار يحاسب عليها، ولم يعد الدين مجرد صلوات غيبية وقرابين تنحر في الهيكل. كانت تلك البداية هي خطوة البشر الأولى على «مسار التاريخ»، كما سماه هيجل. وإليك بمثال آخر، «البروفسور عليخاني» أحد أبطال «اريامهر نامه»، لم يجد في حروب الاسكندر الأكبر للشرق إلا احتلالًا صريحاً ولا ينبغي للفرس أن يمجدوه، كان يسميه «الاسكندر أكبر الأشرار» بدل الاسكندر الاكبر، لهم الحق في الغرب أن يمجدوه، أما نحن في الشرق، فمن الطبيعي جداً ألا نمجد الغازي والمحتل! ليست «اريامهر نامه» اجتراراً لقصص التاريخ. وهناك زيارات أخرى لعوالم أخرى، مثل الماسونية، هذا العالم السري والغامض. لم يكن من باب الافتراض أن قدمت الرواية الماسونية كواحد من عدة استفزازات قام بها النظام الملكي في إيران وأدت في النهاية إلى قيام الثورة، هناك أيضاً الاستخفاف بالتقويم الهجري الشمسي، وتعبئة الشعب في حزب واحد، وملاحقة البازاريين، ووحشية السافاك، ودموية الجيش في الجمعة السوداء، كانت الماسونية حقيقة تاريخية وقد استعرضتها الرواية إلى جانب بقية الاستفزازات، لكن نظام الجمهورية الإسلامية هو الذي جعل من الماسونية السبب الأهم، وراح يلاحق الماسونيين مثلما يلاحق أفراد العائلة المالكة، فقد كانت الماسونية أنسب لأدبيات «حزب الجمهورية الإسلامي» لفضح نظام الشاه وفضح ارتباطاته بالغرب وبإسرائيل. كانت الماسونية متغلغلة في الدولة، ولكن كلمة «مشبوهة» احتاجت فهماً أكثر للماسونية العالمية، وهذا ما حاولت الرواية أن توضحه.] الرواية أيضاً لم تفلت من الاتيان على تلك الموجة التي ضربت منطقتنا العربية والتي سميت بـ «الربيع»، والتي كانت أشبه بكلام سيرة التجربة عن تلك الحالة التي عاشها كاتب الرواية كمراقب ربما و ربما عاشها بشكل آخر، ثم اسقاطها في فضاء الرواية من خلال ظهور رضا بهلوي ابن شاه إيران، والإعلان عن رغبته في أن يعيش الداخل الإيراني هذا الربيع، ترى كيف لك أن تضعنا في تلك السياقات المتداخلة التي رسمتها لفوضى الربيع تحولاته التي زاوجت بين الانتصار والانكسار وبين الأمنية والخيبة التي عاشها إنسان منطقنا العربية؟ في الخمسينات كانت الحكومة المنتخبة التي حاصرت الشاه الإيراني بالدستور وأممت النفط الأيراني بقيادة د. مصدق هي الربيع الإيراني، ولمقارنة ذلك الربيع الإيراني بالربيع العربي الذي جاء بعد أكثر من نصف قرن، كان لا بد لي من حيلة استخدام زمنين في الرواية. كان القارئ ينتقل من فصل إلى فصل، ويتحرك من الربيع الإيراني إلى نظيره العربي على نحو لا يشعر فيه بالزمن بينهما. اعتقد أن الناس الآن تستخدم مصطلح «ربيع» بمعناه السلبي الذي يعني مجرد هبوب نسمات تتطلع إلى وهم الحرية، تهبُ الناس آمالاً غير عقلانية، فيرفع المتفائلون أصواتهم بشدة، ثم لا تلبث أن تختفي النسمات بسرعة ويحل محلها الخيبة ، هذا ما حدث تماماً في «ربيع براغ» عام 1968م، والذي منه صُك المصطلح الأصلي. ويمكنك أن تقارن بين أي من هذه الحركات الربيعية، لكني وجدت الربيع العربي يشبه أكثر ما يشبه الربيع الإيراني، مع أن كتب السياسة لا تسميه ربيعاً، تسميه «انقلاب مصدق». أما ظهور رضا بهلوي أثناء أحداث الربيع العربي يصرح في جريدة عربية غير مشهورة فهو حدث عابر وغير ذي أهمية، وما ورد في الرواية إلا ليبين موقف المعارضة الملكية الإيرانية من الأحداث الساخنة في الدول العربية، وهو موقف معروف ويحذر من الأحزاب الإسلامية، ويميل للملكيات مع الإصلاح الدستوري التدريجي. والمؤلف في الرواية يحمل شخصية بلا اسم، غير معروفة المعالم، لتكون شخصية عربية عامة بحيث يمكن للقارئ أن يتصورها قادمة من أي بلد عربي.

مشاركة :