القاهرة: «الخليج» كان الروائي الإنجليزي جراهام جرين (1904 1991) أول من استخدم تقسيم أعماله ما بين جادّ ومسلٍّ، وقد عرف القارئ العربي أعماله من خلال ترجمة «القوة والمجد» و«قضية خاسرة» و«الأمريكي الهادئ» و«القنصل الفخري» و«الرجل الثالث» و«الخاسر ينال كل شيء» و«العميل السري»، إضافة إلى مسرحيته «غرفة المعيشة»، وهناك أكثر من 15 فيلماً ناجحاً عرضتها الشاشة مأخوذة عن رواياته وقصصه.درس «جراهام جرين» في مدرسة كان والده ناظراً لها، ثم تخرج في جامعة أكسفورد، متخصصاً في التاريخ، وأثناء دراسته الجامعية أصدر ديواناً شعرياً بعنوان «إبريل الثرثار» سنة 1925 ويصف إصداره هذا الديوان بأنه «عمل طائش» ولم يطبع الديوان ثانية، ولم يكن يحب أن يذكره أو يشير إليه.بعد تخرجه في الجامعة عمل محرراً بجريدة التايمز وراودته فكرة أن يكون كاتباً روائياً في تلك الأثناء، فكتب روايتين لم يقبلهما ناشر، وبدأ بكتابة الثالثة، وهنا يقول في مذكراته التي صدرت سنة 1980 بعنوان «طريق الهروب»: «كنت في إجازة مرضية من جريدة التايمز بعد عملية جراحية، وبدأت كتابة الرواية الثالثة، وعلى الرغم من أنه يفصلني عنها الآن خمسون عاماً، فإني ما زلت أذكر السطر الأول الذي افتتحت به الرواية، مع أني نسيت بدايات كل ما كتبته بعد ذلك، ربما كان السبب أني أتذكر المشهد بوضوح، وربما لأنها كانت رمية النرد الأخيرة في لعبة خسرتها مرتين من قبل، فقد رفض الناشرون روايتين لي، وعزمت إذا فشلت في إيجاد ناشر لهذه الرواية الثالثة، أن أتوقف عن كتابة الرواية، وأستقر في عملي الوظيفي الرتيب، وترددت عدة أيام في كتابة الجملة الافتتاحية في تلك الرواية، وربما كان الأمر سيكون أسهل لو لم أخض تجربتين فاشلتين بعد أشهر عدة من الكد والعمل».وحققت رواية «الرجل الذي بداخلي» نجاحاً كبيراً عندما نشرت عام 1929، وقد صدرها باقتباس يقول: «هناك رجل آخر بداخلي، ربما غاضب مني»، وأتاح له نجاح الرواية فرصة التنوع للتأليف الأدبي، لكن الحظ لم يحالفه حين أصدر روايتيه التاليتين «فكرة العمل الرئيسية»، و«إشاعة عند هبوط الليل»، يقول جرين عنهما في مذكراته: «لم أعد طباعتهما وأوقفت حتى الإشارة إليهما، فقد كانتا رديئتين ودون مستوى النقد، السرد فيهما مسطح، والأسلوب متكلف، وأعجب الآن كيف قبل ناشر طباعتهما، بل أذكر أني تلقيت برقية شكر من الناشر حين قرأ الأصل، وبالتأكيد كان رجلاً ساذجاً ورومانسياً كالمؤلف آنذاك، حين قرأتهما مؤخراً وجدت أني كنت مهتماً جدّاً بالأسلوب وكان رديئاً، كنت أستخدم الصفات بكثرة، وأشرح الحركة بأكثر مما يتطلب الموقف، كأني لا أثق في ذكاء وفهم القارئ، وكان الحوار مهماً مع أنه جزء مهم في الرواية والمفروض أن يقوم بدور دافع للحركة في أحداث الرواية».تسبب فشل هاتين الروايتين في وقوع جراهام جرين في مأزق مالي، وحاول أن يعود للعمل في جريدة التايمز، لكن إدارتها رفضت عودته، لكن نجاح روايته «قطار إسطنبول» سنة 1932 أنقذه، وبدأت رحلته الروائية من نجاح إلى آخر، حتى إن شهرته الكبيرة كما يقول نقاد حالت بينه وبين جائزة نوبل في الأدب. في سنة 1938 أرسلت الكنيسة جراهام جرين إلى المكسيك لكتابة تقرير عن الاضطهاد الديني هناك، وخرج بكتابين من تلك الرحلة هما «طرق لا قانونية» وروايته «القوة والمجد» وفي سنة 1941 أثناء الحرب العالمية الثانية سافر إلى سيراليون في عمل تابع لوزارة الخارجين البريطانية، وعاملاً مع قسم الاستخبارات البريطانية، وقد أصدر ناقد إنجليزي سنة 1988 كتاباً بعنوان «الكتاب العملاء الروائيون كجواسيس» ضمنه قصة 12 روائياً عملوا لفترة جواسيس مع إدارة الاستخبارات البريطانية.منذ البداية التزم جرين بمأزق الإنسان المنهار، بالازدواجية في العقل البشري، في الجاذبية المغرية للشر والخير معاً، يشده دوماً التعبير عن فظاظة الحياة الاجتماعية، وكان دائماً يرى أن «الكتابة نوع من العلاج النفسي»، كما يؤكد في مذكراته: «أتساءل أحياناً، كيف يمكن لكل أولئك الذين لا يبدعون أدباً أو فنّاً أو رسماً أو موسيقى، الهروب من الجنون والخوف المرعب المتأصل في الموقف الإنساني الذي نعيشه، وقد قال الشاعر الإنجليزي «أودن»: الإنسان يحتاج إلى الهروب، كما يحتاج إلى الطعام والنوم العميق، وأنا أهرب إلى الرواية».
مشاركة :