الحياة تدب ببطء في سوق حلب القديمةسوق حلب القديمة بمحلاته وخاناته قلب المدينة النابض، إذ لا يمكن للمدينة أن تنهض اقتصاديا ما لم يعُد السوق إلى نشاطه، لذلك بدأت محاولات ترميم البعض من أجزائه رغم الدمار الكبير الذي لحق بحواريه الضيقة التي كان يدب فيها النشاط منذ ساعات الصباح الأولى إلى آخر النهار وكأنها خلية نحل لا تعرف التعب.العرب [نُشر في 2017/11/18، العدد: 10816، ص(20)]الحرب لا تخلف إلا الدمار حلب (سوريا) - تحت قناطر تاريخية مرممة ومزدانة بالأضواء وأشجار عيد الميلاد، يُباع صابون حلب ومجوهرات مشغولة يدويا في حي صغير عادت إليه الحياة في مدينة حلب السورية القديمة التي اجتاحتها الحرب. وقد غيّرت المعارك التي شهدتها مدينة حلب طوال السنوات الماضية، معالم المدينة الأثرية القديمة المدرجة على لائحة التراث العالمي بأسواقها وخاناتها، بعدما تحولت إلى خط تماس بين طرفي النزاع. ولا يزال عدد من واجهات المتاجر مغلقا، إذ أنه لم يُرمّم بعد، لكن غرفة التجارة في حلب نظمت سوقا ميلاديا، حيث عُرضت مجوهرات مشغولة يدويا وسجاد تقليدي وصابون حلبي مصنوع من زيت الزيتون. وتعود أسواق المدينة الأثرية إلى نحو 4 آلاف عام، وتضم أكثر من 4 آلاف محل و40 خاناً تأثرت من الحرب، وفي العام 2013، أدرجتها منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونيسكو) على قائمة المواقع العالمية المعرضة للخطر. في خان الجمرك الذي كانت تتوقف فيه القوافل سابقا، والذي أعيد ترميمه جزئيّا، أعاد البعض من تجار الأقمشة والسجاد فتح متاجرهم، وبينهم سهيب كربوج الذي أغلق محله على مدى سنوات بسبب الحرب والأضرار التي لحقت بالسوق. يقول كربوج الذي عرض ستائر مطرّزة “كنا نصدّر بضائعنا إلى العراق وليبيا والجزائر”، مضيفا، “عدنا إلى خان التجارة، لأن حلب هي عصب الصناعة والتجارة في البلاد”. وعن سبب تسمية السوق بخان الجمرك، يقول أحد أصحاب المحال التجارية في الخان محمد الخطيب، “ما نسمعه من كبار تجار الخان أن سبب تسميته بخان الجمرك يعود لكونه كان مركزا لتخليص البضائع جمركيا”. ويضيف، “منذ أن تواجدت في هذا الخان وأنا أعرفه يختص ببيع الأقمشة، ولكن نسمع من القدماء أن الخان وفي بضع محلات منه كان يستخدم للصرافة. لكنه أصبح مخصصا لبيع الأقمشة فقط، حيث أغلب الأقمشة التي كانت موجودة في الخان قبل الحرب، كانت تصنع في مصانع مدينة حلب، وحينما نحتاج البعض من الأقمشة الأجنبية نقوم باستيرادها من الخارج.. وهذا قليل لأن أغلب الأقمشة الموجودة هي صناعة حلبية”. ويقول عمر عاصي أحد أقدم التجار المتواجدين في الخان، “المهنة الأساسية لخان الجمرك هي بيع الأقمشة بالجملة، حيث تتوزع في المحلات التجارية العديد من أصناف الأقمشة وأهمها الأقمشة المصنّعة للبرادي والمفروشات وكل مستلزماتها التي يقصدها تجار الأقمشة والزبائن العاديين من جميع المناطق داخل سوريا وخارجها”.خان الجمرك يزدان بالأضواء وأشجار عيد الميلاد ويعتبر خان الجمرك، أحد أكبر وأهم خانات حلب القديمة من حيث الشكل المعماري والأهمية الاقتصادية، تلك الخانات التي شكلت معلما حضاريا وتاريخيا يدلّ على عراقة حلب ومكانتها التاريخية بين المدن العالمية المشهورة. ويضم الحي أيضا الجامع الأموي الشهير الذي كان قد أعيد بناؤه في القرن الثاني عشر. لكنّ مئذنته دمّرت بفعل الحرب الاخيرة. خارج سوق الجمرك، لا تزال المدينة ساحة دمار حيث يمكن رؤية واجهات منهارة وتلال من الأنقاض، لكن جامعيين في ألمانيا أعلنوا في مايو الماضي أنهم يعملون على وضع خارطة دقيقة لحلب القديمة وكنوزها المدرجة على قائمة التراث العالمي للبشرية تمهيدا لإعادة إعمارها. في قاعة مليئة بالنور تطل على ممرات حرم جامعة كوتبوس في ألمانيا الشرقية السابقة، يشير المخطط المديني كريستوف فيسلينغ إلى دهليز أزقة حلب مرسوما على خارطة ضخمة طولها متران وعرضها متران ونصف المتر بمقياس 1500، مفروشة على مكتبه الواسع. وأشرف فيسلينغ على وضع هذه الوثيقة الاستثنائية الفائقة الدقة التي تشمل حلب القديمة بالكامل، بأسواقها وحماماتها وجوامعها وكنائسها ومساكنها. ورسمت في الخارطة 16 ألف قطعة أرض، إضافة إلى 400 مخطط للمباني الرئيسية في هذه المدينة المأهولة بصورة متواصلة منذ ما يزيد عن ستة آلاف عام. ويتبع الجامعي بإصبعه خطوط الشوارع الضيقة، فتطفو ذكرياته ويتيه في هذه المدينة القديمة بقدم الأبدية، بحسب ما تصفها قصيدة من القرن الثاني عشر. يروي كريستوف فيسلينغ، مسترجعا بحنين رحلاته الكثيرة إلى المدينة قبل اندلاع النزاع في سوريا عام 2011، “كنّا أحيانا ندخل بيتا في حلب لم تكن واجهته المتقشفة توحي بأي طابع خاص، لنجد أنفسنا فجأة في سلسلة من ثلاثة أفنية داخلية ساحرة ترتفع فيها أعمدة مكسوة بالنقوش والزخارف”. هكذا كانت الحياة قبل أهوال المعارك وفظاعاتها، قبل أن تصبح العاصمة الاقتصادية لسوريا ساحة المعركة الرئيسية في النزاع السوري، وانقسامها إلى شطر غربي ظل تابعا لقوات النظام وشطر شرقي سيطرت عليه الفصائل المقاتلة. وبعد نشر الخارطة التي عمل عليها ستة خبراء ورصدت لها ميزانية قدرها 60 ألف يورو، على الإنترنت أصبحت في متناول كل الراغبين في المشاركة في إعادة إعمار حلب. وبنقرة على الخارطة، يكون بإمكانهم الدخول إلى “جميع مخططات الورش والصور والتقارير الوصفية لموقع معيّن”، بحسب ما أوضحت جامعة براندنبورغ الفنية في كوتبوس التي كلفتها وزارة الخارجية الألمانية والمعهد الألماني للآثار بهذا المشروع. وقال كريستوف فيسلينغ “لسنا مسؤولين سياسيين، لكننا أردنا بصفتنا مخططين للمدن، إرساء أسس” حتى تستعيد المدينة في أحد الأيام عظمتها وطابعها الخاص. ومن أهداف المشروع منع مجموعات البناء الكبرى والمستثمرين من إرسال جرافاتهم لهدم المباني المتضررة وتشييد فنادق ومراكز تجارية محلها.
مشاركة :