أسميها معارك البطون، في كل مرة أقرأ عن نظام تخسيس أو إنقاص وزن جديد أو حتى التي يصفونها بأنها نظام غذائي وأسلوب حياة، فإنها في الغالب تدور حول الفوز في معركة ضد بطنك بالدرجة الأولى. لا أريد أن أغرقكم في الأحاديث النظرية ولكن أحد علماء النفس فسّر رغبتنا في تناول الطعام أو ما يسمى "الشره العاطفي" emotional eating، فسرها بأننا نحاول من خلال تناول الطعام ملء الفراغ الذي خلفته الرضاعة من الأمهات في نفوسنا، فنحن نملأ بالطعام لا الفراغ المادي فقط ولكن أيضاً الفراغ النفسي للانفصال عن الأم بعد الفطام. هل أؤمن أنا بهذه النظرية؟ لا أعتقد أن هذا يجب أن يكون السؤال، ولكن السؤال هو: كم من طعامنا يكون فعلاً لحاجة جسدية وكم منه يكون على سبيل الهرب من التعامل مع مشاكنا النفسية أيًّا كانت؟ عندما نظرت في النصوص التراثية المتعلقة "بالبطنة" أو كثرة تناول الطعام وقعت على عدد كبير أقتطف منها التالي: -"ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن ، بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه ، فإن كان لا محالة ، فثلث لطعامه ، وثلث لشرابه ، وثلث لنفسه" (حديث شريف). -احذروا البطنة، فإن أكثر العلل إنما تتولد من فضول الطعام. - ابن سينا. -اجعل طعامك كل يوم مرة *** واحذر طعاما قبل هضم طعام - ابن سينا. -ثلاث خصال تقسي القلب: كثرة الأكل، وكثرة النوم، وكثرة الكلام. - الفضل بن عياض. -قم عن الطعام وأنت تشتهيه - مثل سائر. -وقيل: البِطنَة تُذهب الفطنة. فلما تأملتها قليلاً وجدت أن غالبها لا يتحدث عن اختيار أنواع الطعام بقدر ما تتحدث عن مقداره. ونحن نقول لمن تقوده معدته أو يأكل دون الحاجة للطعام : سِقِط، وفِجِع، ويقولون في مصر: طِفِس، ولمن يتنقل بين أصنافه بعد انقضاء وقته: برَمْرِمْ، وهي من الرمم، والرمم هي الجثث البالية، ويغلب على ظني أنه اسخدام تمت استعارته من الطيو رالجارحة والحيوانات الضارية التي تتجمع حول النافق منها لتأكله. ثم نظرت في حال أجدادي وجداتي، فرأيت أنهم غالباً ما كان طعامهم الخبز والغموس، زيتوناً كان أو زعتر، أو طبقاً من السلطة البلدية، أو الطبيخ، وقليلاً ما أكلوا اللحم بأنواعه أو الأرز، كان طعام جدي الذي عهدته منه صباحاً بضع قرون من الفلفل الأخضر المدعوكة في إناء فخاري مع بعض الملح وزيت الزيتون، يأكلها بلقيمات وكفى. أقول لنفسي فهل نحتاج إلى ريجيم حقاً أم نحتاج إلى تغيير كامل في نظرتنا للطعام الآن ونحن مرفهون منعمون؟ هل نتحدث عن أنواع الطعام التي تسمن والتي تخسس أم نتحدث عن أنواع السلوك التي تعزز الشره وتبعدنا عن الغاية من الاختيار، وهي التحكم في النفس.يقول تعالى "وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا" فكان مقام التكليف عدم الإسراف. وليس التوقف عن تناول أطعمة بعينها. فلماذا عندما نأتي لنتحدث مع الناس حول الطعام والوزن الدائن كل ما نتحدث فيه هو هذه الفاكهة وتلك، وهذا الدهن وذاك، والخبز واللحم، والسعرات الحرارية. لماذا لا نتحدث عن كون الطعام كأي شيء آخر مباح، إن استهلكنا وتحول إلى مضرة أصبح من الواجب على المرء أن يتعامل معه كذنب في حق نفسه وجسده؟ لماذا لا نتحدث عن الإسراف في الطعام وتناول الطعام المؤذي على أنه خيانة للأمانة وإفساد للجسد، وتبذير للرزق وانشغال عن الغاية والهدف بالوسيلة. ولعل أكثر ما أراه يستفزني هي الحميات التي تعبر عن نفسها بجمل مثل: لن تجوع بعد اليوم، كل ما تريد حتى تشبع. فإن كان محموداً عند هذه الحميات التفاتها لأنواع الطعام إلا أنها لم تحل المشكلة الأساسية، وهي الشره وإرضاء الشهوة. إن مشكلتنا مع الطعام تكمن بصورة أساسي في تحوله لدور مركزي في حياتنا بعد أن كان هامشياً. أسباب ذلك تتعدد، منها النظام الاستهلاكي الجديد والمنتجات المتوفرة والمتنوعة والتي في غالبها مصنعة وغير صحية، ومنها الفراغ النفسي الذي لا نتعامل معه فيتحول إلى هوس بالطعام. إذا نظرنا حولنا فهل يمكن أن نصدق بأن هناك الآن محطات فضائية مخصصة فقط للطعام؟ ليس لقيمته الثقافية أو مثلاً علاقته بأحوال الناس خلال التاريخ، بل الطعام فقط بدون أي سياقات أخرى. كتب مخصصة لطرق طهي الدجاج وأخرى لطرق عمل البيض. الأمهات اللواتي يقضين الساعات في المطبخ من أجل بضع دقائق يلوك فيها الأبناء طعامهم مسرعين ثم يشتكون من الملح أو الجزر أو بعض الفلفل. ولو كانت وضعت أمامهم طبقاً من السلطة وطبقاً من الطبيخ مع أرغفة خبز لكانت أدت واجبها. ولكنني أم وأعلم جيداً كم من الجميل أن أنظر فأرى صغيرتي تتلذذان بطعام صنعته، أو أصنع لزوجي وجبة يحبها، ولكنني لا أفعل هذا كل يوم وقد جهدت حتى توصلت لطرق أعد فيها ما قد نحب تناوله دون أن يستهلكني ذلك. فلا أنا ولا هو نرى أنه من المنطق أن يقضي المرء ساعتين من يومه في تحضير غداء!ما علاقة كل هذا بالريجيم؟ لأننا بدلاً من حل المشكلة الأساسية وهي تحول الطعام إلى هدف في حد ذاته، وإلى متعة أساسية يومية، أصبحنا نناقش النتائج، وهي السمنة والوزن الزائد والصحة المتردية والاختيارات الغذائية الخطأ. منذ فترة قصيرة كنت أشاهد وثائقاً عن عادات الغذاء في منطقة البحر المتوسط، يتحدث الرجل إلى فلاحتين كبيرتين في السن (غالباً في السبعينات من عمرها)، فتقولان له: من أراد أن يأكل فعليه أن يعمل. ولم يكن قصدهن أن الأكل هو أجرة العمل، لا بل أن الإنسان حتى يأكل عليه أولاً أن يحتاج للطعام! ثم تنظر إلى نوعية الأطعمة التي أكلها أشخاص يقضون يومهم في العمل الشاق فتجدها غالباً أطعمة لم تطبخ، أو سريعة الطهي، وكأنهم لا يكترثون.. وكأنهم لا يملكون إضاعة الوقت لطهي طبق من الطعام يأكلونه آخر اليوم. يقولون: الأرض التي تزرعها وتهتم بها تمنح المحاصيل طعمها، تأخذ نور الشمس وتشرب من ماء الأرض، فماذا يمكنك أن أن تفعل لتجعلها أشهى؟ القليل. لقد ضاعت منا الكثير من المعاني التي لم نعد نختبرها بسبب أسلوب حياتنا المنفصل عن الطبيعة، وعن خلق الله الآخرين، حيوانات ونباتات. محاطون نحن بأعمدة أسمنتية، يصلنا الطعام في أكياس بلاستيكية، وعلب معدنية، لا نعرف من أين جاء، فنتناوله دون أي تفكير. ولو أننا بذرنا البذرة وراقبناها تكبر لفكرنا كثيراً قبل أن نلتهمها دون تأمل وشكر. ولو أننا التفتنا إلى عزلتنا هذه وإلى مشاكلنا الأخرى بدلاً من ملأ الفراغات بالمخبوزات والحلويات، ربما ما كنا احتجنا إلى "ريجيم". هذه التدوينة منشورة على موقع ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :