لا يمنع الدستور من المشاورات السليمة والخالية من أي غرض أثناء تشكيل الحكومة، ولكن دون تهديد أو مساومة، فكل حكومة تولد ولادة جديدة بثقة أمير البلاد ولا يجوز محاسبتها على مواضيع سابقة إلا إذا كانت مستمرة بالطبع. قرأنا تصريحات كثير من النواب حول التشكيل الحكومي المرتقب، فمنها ما حمل تهديدا باستجواب رئيس الوزراء إذا عاد الوزير الفلاني أو إذا لم تتم إعادة الجناسي، ومنها تصريحات لبعض النواب تساوم رئيس الوزراء فتتعهد بوقف الاستجوابات إذا تم استبعاد من اعتبرهم هؤلاء النواب وزراء التأزيم، ومنها أيضا تصريحات لنواب آخرين رداً على زملائهم فترفض ما اعتبرته تحصينا لرئيس الوزراء كما ترفض استبعاد أي وزير من المساءلة والاستجواب. وهذه التصريحات بالإضافة إلى أنها تمثل استمراراً لزحف السلطة التشريعية على اختصاص السلطة التنفيذية فإنها أيضا دلالة على تدخل واضح في اختصاص صاحب السمو أمير البلاد حسب الدستور. فقد حسمت المذكرة التفسيرية للدستور هذا الأمر عندما تطرقت إلى وجوب إعادة تشكيل الحكومة بعد الانتخابات، أي في بداية الفصل التشريعي، فلم توجب أن تحصل الحكومة على الثقة من مجلس الأمة مثل الدول ذات النظام البرلماني ولكنها نصت على: "الاكتفاء بمجرد إعادة تشكيل الوزارة على النحو الذي يرتئيه أمير البلاد، على أن يكون هذا التعيين نهائيا وغير معلق على إصدار قرار من المجلس بالثقة في الوزارة الجديدة". كما نصت على: "أن أمير البلاد يراعي عند إعادة تشكيل الوزارة الأوضاع الجديدة في المجلس النيابي، وما قد يقتضيه الصالح العام". وهكذا يتبين أن الدستور في مذكرته التفسيرية وضع التشكيل الحكومي على النحو الذي يرتئيه أمير البلاد، وهذا يبعد كل البعد عن لهجة التهديد والمساومات التي أتحفنا بها النواب خلال الأسبوعين الماضيين. وبالتأكيد لا يمنع الدستور من المشاورات السليمة والخالية من أي غرض أثناء تشكيل الحكومة، ولكن دون تهديد أو مساومة، فكل حكومة تولد ولادة جديدة بثقة أمير البلاد ولا يجوز محاسبتها على مواضيع سابقة إلا إذا كانت مستمرة بالطبع. وحتى تكتمل الصورة الدستورية يجب أن نؤكد هنا أنه من حق النواب ممارسة جميع حقوقهم الدستورية مثل السؤال والاستجواب وطرح الثقة بعد تشكيل الحكومة؛ على أن تكون هذه الممارسة وفق أحكام الدستور التي شرحتها وبينتها أيضا أحكام المحكمة الدستورية دون تعسف أو حياد عن هذه الأحكام. ولا يجوز أن ننسى في السياق ذاته مطالبات النواب بالمشاريع الشعبوية التي تستنزف الميزانية وتعاكس الإصلاح الاقتصادي، فهل هي داخلة في المساومات والصفقات؟ وهل سيتم قبولها من الأمير والحكومة؟ وهل سيؤدي قبولها هي أيضا إلى توقف موجة المساومات والاستجوابات الحاليّة؟ إن السؤال المهم الذي يجب أن يطرح الآن هو: هل سيقبل رئيس الوزراء باستبعاد بعض الوزراء بناء على طلب النواب؟ وهل سيقبل بإعادة الجناسي بناء على طلب النواب؟ وهل سيقبل بالقوانين الاستنزافية بناء على طلب النواب أيضا؟ وهل سيتوقف الأمر عند هذا الحد أم سيبدأ النواب الذين اعترضوا على هذه الصفقات استجواباتهم من جديد وسيطالبون بالمزيد؟ وهل سيؤيدهم النواب أصحاب الصفقات ويتخلّون عن عهودهم كما حصل في الاستجوابات السابقة؟ إن الأزمة الحاليّة في نظري هي أبعد بكثير من مجرد تشكيل الحكومة.
مشاركة :