في معرض تذكيرها باليوم العالمي للفلسفة، حرصت منظمة «اليونيسكو» على وضع ملصق للمناسبة على موقعها الإلكتروني يظهر رأس رجل محاطاً بخريطة العالم، كأنها تريد أن توحي بأنّ الفلسفة تتصل بتفعيل العقل الكونيّ للإنسان، وبأنّ التفكير هو المحور الذي يَشغَل العالم، ويُشغّله. وعلى رغم أنّ منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة، اعتمدت هذا اليوم منذ عام 2005، إلا أنّ اهتماماً قد تصاعد بالفلسفة وتدريسها في أعقاب استفحال الظاهرة الجهادية، وتوحش الفهم السلفي المتزمت للنصوص الدينية، ما دفع صنّاع الاستراتيجيا في العالم العربي، حصرياً، إلى الانتباه للفلسفة باعتبارها العلم الوحيد من بين العلوم الإنسانية والاجتماعية الأقدر على تفكيك خطابات التطرف، والخطابات بعامة. وفي السياق ذاته، راحت دول عربية تحقن المناهج الدراسية في المراحل الأولى بدروس فلسفية، كما تمّ اعتماد الفلسفة مادة رئيسية لجميع الطلبة في الجامعة الأردنية التي تعدّ أعرق الجامعات في المملكة الهاشمية. وكانت اليونيسكو تأمل، قبل اثني عشر عاماً، أن تساهم الفلسفة في تشجيع «التفكير الناقد والمستقل»، وبالتالي «السعي نحو فهم أفضل للعالم وتعزيز التسامح والسلام»، حيث أعرب المؤتمر العام للمنظمة الأممية عن قناعته بأنّ «إضفاء الطابع المؤسسي على يوم الفلسفة في اليونيسكو، بتحويله يوماً عالمياً للفلسفة، من شأنه أن يشكّل اعترافاً متجدداً بمكانة الفلسفة، وأن يعطيها دفعة قوية، بخاصة في ما يتعلق بدعم تدريس الفلسفة على الصعيد العالمي». ولعل ثمة من يظن، على نطاق واسع، بأنّ الفلسفة علم نخبوي يزداد صعوبة إذا أضفنا إليه علوم المنطق التي تعتمد روح الرياضيات والجدل الحسابي والمعادلات. بيْد أن ذلك جزء من الفضاء الكبير للفلسفة التي هي في الأساس، شكل من أشكال إدارة التفكير في الحياة والعالم والوجود. وهي أيضاً ما منح، برفقة الخيال، الأفكار أجنحة لتطير في فضاءات الحلم الذي بدا في لحظة انبثاقه عسيرَ التحقق، لكنه تمظهر فيما بعد. ولم يكن ليتحقق ذلك من دون الفلسفة. فالفلسفة، استطراداً، تعمل على تفتيق العقل، وفتح كُوى عميقة فيه، بمعنى تفجير التفكير، وتمكينه من الذهاب إلى أقصى نقطة ممكنة، مع أنّ تلك النقطة، في لحظة الوصول إليها، تصبح منصة إلى نقاط أخرى قصوى في جدل لا يتوقف. فالفلسفة لا تعترف بالحواجز، ولا المحظورات، ولا باليقين. إنها تعمل بلا هوادة على تفتيت اليقين والنهائي والمطلق، وتظل تحفر في الأفكار والمعاني والتصوّرات، فتوسّع الأمداء التي تشمل الصناعة والجمال والاقتصاد وكل ما يحقق العدل والخير والرفاه والسلام. بيْد أنّ للفلسفة جانباً معتماً، حين تسوّغ استعباد البشر، أو تصنيفهم على نحو عرقي، كما فعل الفيلسوف الألماني كانط، في خطيئة فلسفية لا تغتفر، إذ قسّم «نبي الأخلاق» الأجناس البشرية وفق اللون، وجعل الأجناس البيضاء أكثر الأجناس تطوراً وذكاء ومساهمة في بناء الحضارات، تليها الصفراء، ثم السوداء، ثم تأتي الأجناس الحمراء، مثل الهنود الحمر وشعوب القارة الهندية، كأسوأ الأجناس ذكاء وأقلها تطوراً. وجاء الفيلسوف الإنكليزي ديفيد هيوم، بما هو أبشع من ذلك في إقصائه الأعراق غير الأوروبية: «أنا لا أشك أبداً في أنّ الزنوج وجميع أنواع البشر هم بالطبيعة في مستوى أدنى من الإنسان الأبيض». وبتحريض، ربما، من فلسفة هيوم، طوّر الفيلسوف الألماني نيتشه فلسفة أخلاق القوة أو «الإنسان السوبرمان» التي صادفت هوى لدى الفاشيين لمبالغتها في إقصاء الضعفاء والمرضى. ثم أتى مارتن هيدغر، فغالى في أفكاره العنصرية، إذ اعتبره النازيون فيلسوفهم وكاهنهم الأكبر، وانضم إليه صديقه عالم الأنثروبولوجيا إيوجين فيشر المدافع بقوة عن فكرة تعقيم البشر، والقتل الرحيم للمعوقين، وإبادة اليهود. وفي الفلسفة العربية المعاصرة أفكار أقل ضراوة من تلك، تتصل بالأقليات، وتفوح برائحة قومية تتجاهل الواقع التعدّدي للمجتمعات العربية، ما جعل بعض المفكرين يصدر عن أفكار كارهة للأكراد والأمازيغ والبربر، والأقليات الأفريقية، وطاول ذلك المسيحيين العرب. بيْد أنّ ذلك كله لا يعني أنّ الفلسفة، بطبيعتها، عنصرية، أو حاضّة على التفكير الاستصفائي الانتخابي للأجناس أو التعدديات الثقافية، فقد جوبهت الأفكار الفلسفية العنصرية بمعارضات لم تنقطع مضت تؤكد أنّ «الاختلافات بين البشر قد ترتبط بطبيعة النظم الحاكمة المجتمعات، أو أسلوب إنتاجها واقتصادها، أو تقاليدها الموروثة، أو غيرها من الأسباب التي لا علاقة لها بمسألة العرق». * كاتب وأكاديمي أردني
مشاركة :