غلبة الطابع الانفعالي على الخطاب الديني السائد في معظم الفضائيات والمنابر الإذاعية والخطب المنبرية، مع تهييج لكل الانفعالات السلبية والغرائز البدائية من قبيل الغيرة والحمية والنصرة والغضب.العرب سعيد ناشيد [نُشر في 2017/11/20، العدد: 10818، ص(9)] في التقييم المرحلي للحرب العالمية على الإرهاب المعولم، وهو التقييم الذي نحتاج إلى إجرائه بين الفينة والأخرى، لدينا بعض الاستنتاجات الأولية. نستطيع أن نقول بنوع من الاطمئنان بأن المعسكر الذي يقاتل ضد الإرهاب المعولم كان ولا يزال يعاني من ثلاث ثغرات أساسية، ولن يقدر على إحراز أي نصر نهائي في المستقبل القريب ما لم يكن قادرا على معالجة تلك الثغرات بالحزم المطلوب وقبل فوات الأوان. تلك الثغرات يمكن عرضها باقتضاب على النحو التالي: أولا من الواضح أن المجتمعات الإسلامية والتجمعات السكنية للمسلمين في مختلف أنحاء العالم، والتي تمثل البيئة الحاضنة لظاهرة الإرهاب المعولم، ويُفترض أنها منبع المشكلة ومكمن الحل، لا تزال غير جاهزة بما يكفي وكما ينبغي، أو ليس بعد. وتتمثل عدم الجاهزية في ثلاثة مستويات هي التالية: أولا عدم وجود أي خطاب ديني ذي طابع إنساني أو نزعة إنسانية تدعمه مؤسسات الدولة وهيئات المجتمع المدني، وقادر على إزاحة خطاب الكراهية والتهييج الذي بات يخترق جل المؤسسات والمجالس الدينية. ذلك أن الخطاب الديني عندنا يحضر فيه كل شيء سوى الإنسان. ثانيا ضعف دولة الحق والقانون باعتبارها الأداة الأكثر فعالية لضمان درء الفتنة والفوضى، ولجم الغلو والتطرف. ثالثا ضعف الوعي بالحريات الفردية لدى المجتمع الأهلي والمجتمع المدني على حد سواء، والتي بات معظمها متحلقا حول الريع بأنواعه الثلاثة: الصدقات الأصولية، الإكراميات السلطانية، والمساعدات الرأسمالية. وتلك هي الآفة الكبرى لجمعيات المجتمع المدني ولما يسمى بمراكز البحث العلمي، داخل معظم دول الجنوب. ثانيا، من المسائل الجديرة بالملاحظة أيضا غلبة الطابع الانفعالي الغوغائي على الخطاب الديني السائد في معظم الفضائيات والمنابر الإذاعية والخطب المنبرية، مع تهييج متواصل لكل الانفعالات السلبية والغرائز البدائية، من قبيل الغيرة والحمية والنصرة والغضب، وذلك على حساب مبادئ الحياة العاقلة، والسلوك المدني. في المقابل، وهذه معضلة من النوع السياسي، لا تقيس السلطات الحاكمة وسطية الخطاب الديني سوى بمعيار واحد ووحيد: الموقف من الحاكم. إذ يكفي أن يكون الموقف من الحاكم إيجابيا حتى يُصنف الخطاب ضمن الوسطية والاعتدال. وهو معيار شكلي ومضلل كما تؤكد معظم التّجارب. لا سيما وأننا أمام قوى تتقن آليات التقية والكتمان والبراء والتمكين، وما إلى ذلك من حيل فقهية. ثالثا، مما لا شك فيه أن قوانين المجتمعات الأوروبية في مسائل الأمن والجريمة والعقاب ونحو ذلك، تتناسب مع مستوى تطور ثقافة الحرية والمسؤولية والمكاشفة والشفافية والالتزام داخل المجتمعات الغربية الحديثة. ذلك التطور هو المنحى العام لروح الحداثة السياسية في آخر المطاف، غير أن تلك الرّوح لا تتناغم مع بعض الخطابات الدينية لدينا والتي لا تزال تمجد قيم التقية والبراء والتستر والتحجّب والتمكين والكتمان. هنا بالذات يكمن سوء التفاهم الأخلاقي الكبير بين قوانين الغرب وسلوك العديد من المسلمين الذين يعيشون كـ“أقليات صعبة” داخل ضواحي المدن الغربية، ويحاولون إعادة اكتشاف دين آبائهم وأجدادهم عبر خطباء وأئمة تشرف عليهم مؤسسات ودول تستغل الإسلام السياسي، أو يستغلها الإسلام السياسي، وذلك بعد أن مكنتهم الحكومات الغربية من هامش الحرية الدينية الذي يطلبون، وقد ساهم في ذلك التمكين الطائفي بعض اليسار الغربي أيضا، وهي قضية أخرى. هذا ما يجعل من إصلاح الخطاب الديني في الإسلام داخل المجتمعات الغربية الحديثة نفسها ضرورة أمنية وأولوية قصوى. غير أن المهمة ملقاة بالأولى على كاهل الجهات المشرفة على إنتاج الخطاب الديني المرصود للمؤسسات الدينية بالغرب. إن عدم استحضار تلك الثغرات الثلاث ليعني في آخر الأمر، وفي الحساب الأخير، أن القضاء على الإرهاب المعولم سيبقى هدفا بعيد المنال بصرف النظر عن التطورات الميدانية الحاصلة في هذا المكان أو ذاك، ذلك أننا أمام إرهاب معولم بكل المقاييس. وهذا هو المعطى الذي لا يجب نسيانه. إن عدم استحضار تلك الثغرات ليعني أن الحرب على التطرف الديني قد تستغرق عشرات السنين، وأن مآل النصر في آخر المآل قد يكون ضمن المحال. كاتب مغربيسعيد ناشيد
مشاركة :