للقيادة شروط صارمة، كما للزعامة ضوابط محددة، وهذا باتفاق جميع المفكرين والمنظرين السياسيين. لكنّ بعضاً من صانعي الأصنام ومرممي القبور في بلاد الشرق الأوسط يريدون أن يصنعوا من الميوعة مجداً، ومن الانكسار مساراً، ومن الانتكاسة انتصاراً. ولا غريب في ذلك فهذا شأن الأمة العربية منذ هزيمة 67، هل يتذكرها الجيل الحالي؟ نصف قرن مدة زمنية كافية لغرس مفاهيم ووقائع خاطئة في ذهن أمة لا تقرأ ولا تنتقد ولا تراجع. فنحن أمام تربية انطوائية وانعزالية، تجهيلية وتفقيرية، ومن شأن هذه الصفات أن ترسخ فيها ما شئت من مفاهيم خاطئة. وما يلاحظه المتتبع للشأن العربي اليوم أن هناك إرادة قوية لجعل السيسي زعيماً وقائداً، ولا أدري حقاً كيف أفسر الأمر خاصة عند بعض من يدعون "الوطنية"؟ فهل بمنطق الانتقام نمنح الشعب زعيماً من ورق؟ وهو انتقام ساذج وصبياني، أو هو شيء آخر إلا وطنية. الوطنية للوطن وللشعوب وليست للحاكم، ما هي معاييرهم لرفع رجل مدمن على الضعة والاستسلام إلى مصاف القادة والزعماء؟ فإذا كانت هناك شكوك قوية في زعامة جمال عبد الناصر نفسه الذي لعب على سذاجة الفلاح المصري، كيف يمكن أن نضفي صفة القائد على رجل وضع مصيره الشخصي ومصير الوطن بين يديه، وتخلّى عن جميع صلاحياته كرئيس حكومة، وخضع لجميع الابتزازات، وشارك بوجه مكشوف في ردة اقتصادية لا شبيه لها، سواء على صعيد مديونية خزينة الدولة أو على صعيد الادخار الفردي ومستوى المعيشة؟ الأمر حقا يحتاج إلى وقفة تأمل ودراسة وغربلة. من أبسط شروط القيادة والزعامة الكاريزمية، الكاريزما لا تعني بناء الشخصية وتكوينها ذاتياً بقدر ما تعني قدرتها على المحافظة على وهجها مع مرور الوقت. فبعيداً عن الشروحات الساذجة لمفهوم القيادة، فإن زعيماً مثل المهاتما غاندي لا يمكن لاثنين أن يتنازعا في قيادته، نفس الشأن مع الزعيم الجنوب إفريقي نيلسون مانديلا، أو لوثر كينغ الأميركي أو فيدل كاسترو، ومحمد بن عبد الكريم الخطابي والزعيم ياسر عرفات. فهؤلاء لم يسقطوا يوماً، حتى الزعيم الفلسطيني لم يستسلم وهو في أشد المواقف انكساراً وضعفاً، فهل يمكن أن نقارن السيسي بهؤلاء؟ أم نضمه إلى زمرة القادة المغاربة، كأمير الريف وعبد الرحيم بوعبيد وعلال الفاسي؟ يمكن أن نعذر أتباعه من تمثيله في أي صورة يختارونها، هل تدرون بمن قارنوه؟ بموخيكا؟ هذا الزعيم الذي اقتسم أجرته مع الفقراء، ورضي العيش في شبه كوخ، يا لَلمهزلة! لكن أن تأتي صفة القيادة من محسوبين على الثورة، فإن ذلك يمثل منتهى الابتذال والانكسار. ذلك أن هدف الثائر أن ينشد من أولوياته ما ينشد العدالة الاجتماعية، وتوزيع ثروات البلاد على الشعب توزيعاً عادلاً، وإشراف الدولة على جميع قطاعات الإنتاج الحيوية والمصيرية، فهل هذه الدروس البسيطة تم نسيانها؟ في حين لم يعمل السيسي إلا مزيداً من الشروخات الاجتماعية الواضحة، تجميد الأجور، الرفع من أثمان المواد الحيوية والأساسية والسلع، التواطؤ لأجل الرفع من سعر المواد البترولية، ومن أثمان الماء والكهرباء، مع الرفع في سن التقاعد والزيادة من نسبة الاقتطاعات، وتخصيص الوظائف لأتباعه من الجيش، وسرقة مدخرات صندوق تحيا مصر، وفشل مشروع قناة السويس "التفريعة". فهل هذه هي المشاريع المنجزة والضخمة التي على أساسها يمكن منحه صفة القيادي، أم أن بالعيون قذى، والذهن قد تجمد؟ ولست أدري لمَ أجمع كثير من المفكرين على استغباء السياسي، وعلى رأسهم جورج أورويل. وإذا كان رجل السياسة كائناً غبياً بدرجات صادمة، فكيف سيكون من يكتب عنه؟ أي أولئك الذين يصفون أنفسهم بالنخبة والطليعة والصفوة من المثقفين؟ سؤال ضخم يشبه قنبلة نيتروجينية تنفجر في وجه واقعنا البئيس. طبعاً يمكن استساغة نعت السيسي بالقيادي بالنسبة لأتباعه كما سبق، لكن أن يتواطأ محسوبون على الثورة على نفس النعت والصفة، فإن التواءً حاداً يحدث في ذهنية بعض المتابعين الحذرين واليقظين ليتساءلوا عن الدوافع الحقيقية لمثل هذا الانزلاق الخطير. هل هي دوافع ذاتية مرضية للعصاب الذهني، أم هي حالة انتقام متأخرة وطافحة من نظام متسلط ومتجبر؟ أم أن الأمر لا يعدو أن يكون فراغ الزاد من أدوات التحليل العلمي والأكاديمي، فيبقى الشطح اللفظي هو سيد التعبير؟ كحالة تلك التي ألصقها بعض رواد المواقع الاجتماعية بإحدى مذيعات قنوات الصرف الصحي؛ حيث نوهت بمشاركة السيسي كعضو فعال في شؤون العالم، وقيل ذلك بشكل جديّ وليس على سبيل المزاح! هذا التهكم السياسي والسخرية السياسية هي ما يطبع للأسف مقولات ومقالات وتحليلات كثير من مثقفينا. وقد اختار جورج فريدمان في مقال له بتاريخ 16 ديسمبر/كانون الأول 2016، وهو محلل استراتيجي أميركي كبير، رئيسين أميركيَّين على طول القرن العشرين كزعيمَين "Leaders"، لأسباب وجيهة، هي تمكنهما من اجتياز أزمات مالية كبرى. بعكس السيسي زعيم الأزمة والتطبيع مع الفساد بكل أشكاله، فلا يمكنني وصفه إلا بأنه قائد بدرجة الهاوية. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :