لم يتوقف الأميركيون عن التدخل في الصراع السوري منذ البداية، وإن تغايرت أشكاله. ومنذ نهاية 2011، غلب أن كان هذا التدخل لغير مصلحة الثائرين على النظام، وليس ضد النظام، خلافاً لما يفضل أن يروجه النظام والممانعون، وخلافاً لما يظنه طيف واسع في الغرب، ممانع بطريقته، يُعرّف نفسه بدلالة الموقف من إمبريالية مجردة لا يقاومها فعلياً، وذلك بدرجة تتناسب مع فقدانه زمام المبادرة الفكرية والسياسية، وارتداده إلى طائفة خاصة بين طوائف الغرب الكثيرة. بداية، وفي مناخات «الربيع العربي» عمل الأميركيون على ملاقاة مطلب السوريين في تغيير نظامهم السياسي، وخلال بضعة الأشهر الأولى تواترت تصريحات من قمة الهرم الأميركي تقول إن النظام فقد شرعيته، وتقدر اقتراب نهايته. كان هذا مشجعاً للسوريين في كفاحهم ومُرجِّحاً إثماراً غير متأخر له. واستناداً إلى هذا الموقف الإيجابي مبدئياً من الثورة السورية، تصدر الأميركيون مجموعة «أصدقاء الشعب السوري»، وقادوها، ضد إرادة أعضاء آخرين فيها (فرنسا، تركيا، قطر...)، إلى شلل مشهود، وعدم مساعدة الشعب المنكود بشيء. في البداية تذرع الأميركيون بافتقار المعارضة السورية إلى إطار سياسي موحد، حتى إذا تشكل هذا الإطار في خريف 2011 بدأوا يتذمرون منه، ولم تكن عيوبه هي ما أزعجتهم، بل خاصة التزامه الشعار المعرّف للثورة: إسقاط النظام. وهذا لأن عينهم كانت على حل تفاوضي، لا يفسح له ذلك الشعار هامش مناورة. ولم يكن تفضيل الحل التفاوضي مشكلة بحال، لكن الأميركيين لم يفعلوا أي شيء لدفع النظام نحوه. وفي 2012 ضغطوا على دول إقليمية، تركيا وقطر بخاصة، لمنع تقديم عون عسكري فعال لمقاتلي الجيش الحر، بما في ذلك مضادات دروع بمقادير مؤثرة، وهذا من دون أن يكون لهم في أي وقت تأثير في روسيا لوقف تسليح النظام، أو في إيران لوقف إمداداتها البشرية أو المالية إليه. وفي أواخر عام 2012 نفسه، تدخل الأميركيون عند دول إقليمية لتضغط على تشكيلات مقاتلة سورية كي لا تحاول دخول العاصمة دمشق. وفي نهاية 2012، عمل الأميركيون على تشكيل إطار بديل للمعارضة السورية، الائتلاف الوطني، لم يساعدوه بشيء على الإطلاق، حتى بعد أن كانت وزيرة خارجيتهم وضعت كل ثقلها لإضعاف الإطار السابق، المجلس الوطني. لم يكن قد تشكل الائتلاف حتى كان مسؤولون أميركيون صغار وأصغر يتصلون من وراء ظهره بنشطاء سوريين وينالون من شرعية الإطار الجديد ومرجعيته. ثم جاءت المذبحة الكيماوية في آب (أغسطس) 2013، وكان ظاهراً بعد أيام من وقوعها أن أوباما مستعد لابتلاع خطه الأحمر، وهو ما وفرته له المبادرة الروسية بسحب السلاح الكيماوي للنظام. كان هذا عملياً إجازة للنظام بأن يستخدم جميع أسلحته الأخرى في قتل السوريين، وهو ما لم يقصر فيه فعلاً. وفي مطلع ها العام ضغط الأميركيون على الائتلاف للمشاركة في مؤتمر جنيف الذي بدا ظاهراً أنه سيكون لا - حدثاً، وقد عكس بالفعل حقيقة أنه لا سياسة للأميركيين حيال سورية غير هندسة سير البلد إلى الهاوية. وفي الأثناء، درب الأميركيون مقاتلين سوريين في الأردن، مئات منهم، بما يكفي للقول إنهم متدخلون في الصراع السوري، لكن بما ينضبط بمنهج «إدارة الأزمة»، ولا يفضي إلى تعديل في موازين القوى عل الأرض. وليس ظاهراً على كل حال أن أياً من هؤلاء المقاتلين شارك فعلياً في الصراع ضد النظام السوري. يبدون، بالأحرى، ورقة أميركية احتياطية أكثر مما هم قوة سورية مقاومة للنظام. ليس كل ذلك وجهاً لسياسة لا - تدخل أميركية جديدة، فالجماعة بصدد تشكيل ائتلاف دولي وإقليمي كبير اليوم لمواجهة نظام «داعش». وهذا بعد وقت قصير من استيلائه على الموصل في العراق واستكمال سيطرته على الرقة السورية وإعلان نفسه دولة خلافة. زعم اللاتدخل خرافة. والولايات المتحدة اليوم لا تنوي التحول من لا تدخل إلى تدخل، بل من شكل للتدخل يحول عملياً دون تسجيل الثائرين على النظام نصراً، إلى شكل يستهدف «داعش» أساساً، ويلحق الصراع السوري ككل بهذه المواجهة. ليس هناك ما يسوغ توقع خير من خفض صراعنا إلى مرتبة ثانوية بعد الصراع مع كيان إرهابي. ما يبنى على ذلك ليس أن الأميركيين لا يتدخلون في سورية، بل إنهم مارسوا طوال الوقت شكل التدخل المناسب لهم، والمتسبب بضرر عظيم لسورية، مجتمعاً وكياناً وعمراناً مادياً. قد تكون عوامل ذلك إسرائيلية أو غيرها، لكن الكلام على عدم تدخل أميركي هو خرافة. وأكثر من يعرف ذلك ويبني تقديراته عليه هو النظام الأسدي. ويجب ألا ننسى أننا نتكلم على الدولة الأعظم، المتدخلة بنيوياً بعمق في تكوين المنطقة منذ حوالى ثلاثة أرباع القرن. الولايات المتحدة جزء لا يتجزأ من النظام الشرق الأسطي الذي تتوجه دوله كله نحو الخارج بفعل وجوده هو في الداخل. الاقتصار في محاولة فهم المنطقة على اعتبار دول الأقليم وحدات سياسية ضمن نظام تنافسي عالمي مضلل إلى أقصى حد هنا. الشرق الأوسط هو النظام الذي تشكل الولايات المتحدة موقع المرجع في تفاعلاته، وأمن إسرائيل وحريتها أولوية عليا فيه، وسلامة السلسلة النفطية والدول الحارسة لها أولوية عليا أخرى. لذلك، فإن الكلام على عدم تدخل أميركي في الصراع السوري لا معنى له بالنظر إلى هذا الواقع البنيوي المديد الذي تتشكل سياسات الدولة وأنظمة حكمها باستبطانه ومراعاة منطقه. النظام الأسدي ليس بحال نتاجاً حصرياً لديناميات داخلية سورية، ولا أي من نظم المنطقة الأخرى، ولا أيضاً سيادة إسرائيل الإقليمية. وعلى خلفية الدخول الأميركي البنيوي في نظام المنطقة، تغدو الإعلانات الأميركية والأطلسية المتكررة طوال 2012 عن عدم النية في أي تدخل في سورية رسالة تطمين للنظام الأسدي، ومؤشراً إلى إرادة إبقاء الوضع الذي يستطيع النظام فيه الاستمرار في قتل محكوميه. لا نقول إن الأميركيين سعداء بقتل السوريين وتدمير بلدهم، ولكن لا يجدون في هذا ما يتعارض مع أولوياتهم: إسرائيل، البترول، الاستقرار. كان من شأن انتصار الثورة السورية في عامها الأول أن يكون مصدر عدوى أوسع في الإقليم الحيوي. اللاستقرار السوري، ولو بلغ حد جعل البلد غير قابل للحياة، يحمي الاستقرار في نطاق أوسع. وما يبنى على هذه الاعتبارات أن التدخل الأميركي الوحيد المرفوض من ممانعين محليين ودوليين هو التدخل الفعال ضد النظام الأسدي. ليس حتى أن الجماعة ضد الحرب، فهم لم يخرجوا يوماً ضد حرب النظام على محكوميه، وبعد أيام من المذبحة الكيماوية، كانوا يتظاهرون ضد احتمال معاقبة النظام على جريمته، وليس ضد المذبحة الكمياوية ذاتها. بعد أيام قليلة تكشّف أن معاقبة نظام فاشي على جرائمه شيء أكثر تقدمية وعدالة من أن يقوم به الأميركيون. شيء Too good to be true، كما يمكن أن يقال بالإنكليزية. لكن، ليس ما يهتم به هذا التناول موقف هذه التشكيلات الممانعة العاطلة، بل فهم واقع الحال. الواقع أن الأميركيين يهندسون الوضع، يديرون الأزمة بالصورة التي تناسبهم. يعدون لتدخل حربي ضد «داعش» لأن هذا يناسبهم، ولا يتدخلون حربياً ولا يساعدون مقاومي النظام على إسقاطه أو الضغط الجدي عليهم لأن هذا لا يناسبهم. وفي ما يناسبهم وما لا يناسبهم لا تشغل حقوق السوريين وحياتهم، وحاجتهم إلى التغيير السياسي في بلدهم وبناء نظام سياسي جديد أكثر استيعابية، مكانة تذكر. ولا نقول إن هذا خطأ أخلاقي لا يليق بالقوة العظمى، الدولة كائنات أنانية تتصرف كلها هكذا. لكنه فقط محاولة لوصف الواقع بوضوح كي يراه أي مشتغلين سوريين بالشأن العام، ويبنوا على ذلك مقتضاه. وكذلك كي لا نُمكِّن الأميركيين من أن يعطونا دروساً في القيم والسياسة.
مشاركة :