يرى الباحث الفلسطيني عامر راشد في كتابه "فلسطين مائة عام بحثًا عن الحرية والعدالة" أن التعارض مع القانون والقيم والأعراف والإرادة الدولية يشكل نقطة تقاطع بين السياستين الأميركية والإسرائيلية، فكلاهما لا تنطلقان من شرعية أو عدم شرعية الأهداف والممارسات، بل من (قانون القوة العارية). وبالتالي لا يمكن حصر الصراع العربي والفلسطيني- الإسرائيلي تبعاً لميزان القوى في منطقة الشرق الأوسط، وفصله عن ميزان القوى عن ميزان القوى الراهن، أو معالجة هذا الصراع بعيداً عن بعده الاستراتيجي الدولي، خاصة بعد انحلال الاتحاد السوفييتي، وبروز قطبية أحادية أميركية جعلت من الأيديولوجية التوسعية الإسرائيلية إحدى ركائز (المجال الحيوي الأميركي)، وما يسمى بـ (قوس المصالح الأميركية)، كما صورتها أيديولوجية المحافظين الجدد بنزعتها العسكرية لتبرير غزو العراق واحتلاله، مقدمة لجعله منصة انطلاق لإعادة فك وتركيب منطقة الشرق الأوسط من خلال تفتيت البلدان العربية، وإلحاقها نهائياً بعجلة التبعية الأميركية، وإعطاء إسرائيل دورا قيادياً رئيسياً في المنطقة، من موقع شريك إستراتيجي ثابت لواشنطن، والتواطؤ معها في توسيع رقعتها الإقليمية، من خلال تأبيد احتلالها للأراضي الفلسطينية وفرض الاستيطان كأمر واقع. ويضيف راشد في كتابه الصادر عن دار ابن رشد أن الاستفراد الأميركي بالعملية السياسية والتفاوضية يخلع على الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي درجة عالية من الصعوبة، ولا يمكن الحديث عن تسوية سياسية شاملة ومتوازنة إلا بعملية إعادة توزيع للقوى وأدوارها بشكل جوهري، في النسقين الإقليمي والدولي، لإرساء معادلة تفرض على الولايات المتحدة وحليفتها إسرائيل التسليم بالحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني وتمكينه من ممارستها، وفي مقدمها حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم. ينطلق راشد في كتابه بتأريخ القضية قبل نكبة الشعب الفلسطيني 1948 ثم النكبة متوقفا عند أبرز محطات القضية في عصبة الأمم وهيئة الأمم المتحدة، والمواقف الإسرائيلية من مشاريع وجهود التسوية السياسية، ومأزق المشروع الاستعماري الصهيوني وتجلياته في السياسات الإسرائيلية، ويرصد للسردية الصهيونية سعيا لإعادة تقديمها وكذا المحاولات الاسرائيلية في إعادة النظر في مكونات "هويتها اليهودية"، كما يحلل الأعمدة الخمسة لسياسة الاحتلال الإسرائيلي، لينتقل بعد ذلك مؤتمر مدريد، اتفاقات أوسلو الجزئية، و"كامب ديفيد2 و"أنابوليس"، ويناقش القضايا الجوهرية في الصراع وغيرها. وكل ذلك في خمسة فصول كل فصل منها يضم خمسة مباحث، ليختتم بملحق لوثائق مهمة تخص الصراع الفلسطيني والعربي ـ الإسرائيلي برمته. ويؤكد راشد أن اعتراف الجمعية العامة بـ (إعلان دولة فلسطين) الصادر عن الدورة التاسعة عشرة للمجلس الوطني الفلسطيني، وبما لا يقبل التأويل، يساوي الاعتراف بدولة فلسطينية على كامل الأراضي الفلسطينية المحتلة في عام 1967، بما فيها القدس، وذلك لأن (إعلان الاستقلال) نص على ذلك صراحة. ومطالبة الجمعية العامة في قرارها بتمكين الشعب الفلسطيني من ممارسة سيادته عليها، ليسترد بهذا سيادته الوطنية المعطلة منذ عام 1947، هو تثبيت لأساس الحل الذي يجب أن تقوم عليه أي تسوية شاملة ومتوازنة ودائمة، فيما يخص الحدود والسيادة. ويضيف "مع أن هذا القرار وكل القرارات الدولية التي صدرت بعد عام 1967 قد انتقصت من حقوق الشعب الفلسطيني التي أقرها القرار (181) على جزء من أرضه وسيادته عليها، والذي كان صدوره بحدِّ ذاته اعتداء على حقوق الشعب الفلسطيني الثابتة والمشروعة ومخالفًا للقوانين والأعراف الدولية، إلا أن مجموع القرارات أكدت على أن أسس أي تسوية مقبولة، حدها الأدنى انسحاب إسرائيل من كامل الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة في عام 1967، وإقامة دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس، وتفكيك الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة، وحق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم وممتلكاتهم التي شردوا منها في عام 1948 وتعويضهم عن الخسارة أو الضرر في الممتلكات. ورغم إجحاف المجتمع الدولي والقرارات الدولية بحق الشعب الفلسطيني وقضيته، فقد قبلت منظمة التحرير الفلسطينية رسميًا في (إعلان الاستقلال 1988) بحل يقوم على أساس دولتين لشعبين، بحيث تقوم الدولة الفلسطينية على كامل الأراضي الفلسطينية المحتلة في عام 1967 بما فيها (القدس الشرقية)، مع حفظ حقوق اللاجئين الفلسطينيين". ويشير راشد إلى إن رفض الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل لحضور قضيتي اللاجئين الفلسطينيين والقدس موضوعًا أو تمثيلاً في مؤتمر مدريد ومفاوضات واشنطن، أشار وبوضوح إلى طبيعة الحل الذي يمكن أن تقبلا به بخصوص القضيتين، ولم يكن من فراغ رفضهما لأي قيد على عمليات الاستيطان الإسرائيلية في القدس الشرقية وبقية الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967. وبذلك تكون الولايات المتحدة الأميركية قد ناقضت ذاتها، ففي شهادته أمام اللجنة الفرعية للاعتماد في مجلس النواب الأميركي بشأن مهمة السلام في الشرق الأوسط (22/8/1991) أكد وزير الخارجية الأسبق جيمس بيكر على ضرورة أن يتم (تجميد إقامة المستوطنات خلال فترة المفاوضات). واتضح الموقف الأميركي بفجاجة في الجولة السادسة من المفاوضات الثنائية (25/8/1992)، حيث دعم هذا الموقف علانية وصراحة الموقف الإسرائيلي الرافض لأن تكون القرارات الدولية أساسًا في الحل الذي تنتجه المفاوضات. وأيدت الولايات المتحدة الموقف الإسرائيلي في انتقادها لمطالبة الفلسطينيين بانطباق القرار (242) على الأراضي الفلسطينية المحتلة، وزعمت أن هذا القرار ينطبق على الجبهات بين الدول، وانطباقه في النهاية على المسار الفلسطيني ـ الإسرائيلي سيكون خاضعًا لتعديلات تمليها الوقائع على الأرض، وأبلغت واشنطن هذا الموقف للوفد الفلسطيني المفاوض في الاجتماع الذي عقده مع إدوارد دجيرجيان مساعد وزير الخارجية الأميركي في 22/10/1992، فقد طالب دجيرجيان الوفد الفلسطيني بالتخلي عن مطلب انطباق القرار 242 على الأراضي الفلسطينية المحتلة خلال المرحلة الانتقالية، واستثناء القدس من الحكم الذاتي الفلسطيني. ويلفت راشد إلى أنه بعد ما يقارب من خمسة وعشرين عامًا من توقيع اتفاقية أوسلو، وعشرين عامًا على انتهاء المرحلة الانتقالية، وخمسة عشر عامًا على (خطة خارطة الطريق الدولية)، وعشرة أعوام على لقاء "أنابوليس"، ركزت إدارتا الرئيس بوش الابن وباراك جهودهما من أجل كسر استعصاء العملية التفاوضية على حساب حقوق الشعب الفلسطيني، مكررتان بذلك ما انتهت إليه إدارة الرئيس كلينتون في كامب ديفيد 2 يوليو/تموز 2000، ودعمتا مقترحات إسرائيلية تعيد العملية التفاوضية إلى المربع الذي انطلقت فيه من "اتفاق المبادئ" في أوسلو (13/9/1993)، فالمقترح الإسرائيلي المسمى (اتفاق رف) يقوم على الأسس التالية: (شطب قضية اللاجئين، القدس ومنطقة غور الأردن خارج العملية التفاوضية الجارية، ضم الكتل الاستيطانية الكبرى شمال الضفة الفلسطينية، وتوسيعها بعد الإقرار الفلسطيني بالموافقة على مبدأ ضمها لإسرائيل، ولا تطرح الموافقة الفلسطينية كخيار بل كطريق إجباري. "الممر الآمن" بين الضفة الفلسطينية وقطاع غزة يكون خاضعًا للسيادة الإسرائيلية. يتم نقل ما نسبته بين 66% ـ 70% من مساحة الضفة الفلسطينية لسيادة السلطة الفلسطينية، ويكون هذا مؤجلاً حتى يفي الجانب الفلسطيني بكل الشروط الإسرائيلية، أي أن المطروح مرة ثانية (حل انتقالي طويل الأمد). واستبقت إسرائيل زيارة وزيرة الخارجية الأميركية كونداليسا رايس للمنطقة نهاية أغسطس/آب عام 2008 بتسليم الخارجية الأميركية وثيقة أعدها (قسم التخطيط في الجيش الإسرائيلي)، وأقرتها الحكومة الإسرائيلية، وتحتوي بشكل مفصل على ما تدعيه إسرائيل من حاجة لـ (ترتيبات أمنية لازمة في التسوية الدائمة المستقبلية مع السلطة الفلسطينية). وتتضمن العناصر الرئيسية التالية: (الدولة الفلسطينية ستكون منزوعة السلاح "دون سلاح ثقيل، ودون مدرعات، أو مدافع، أو صواريخ، أو سلاح جو". محظور على الدولة الفلسطينية الدخول في أحلاف أو معاهدات عسكرية مع الدول الأخرى، حتى لو كانت دفاعية بحتة. يحتفظ جيش الاحتلال الإسرائيلي بمحطات إنذار مبكر على ظهور الجبال يحدَّدُ عددها وفقًا للحاجة التي تقررها قيادة جيش الاحتلال. وأن يكون وصول قوات الاحتلال الإسرائيلي إلى هذه المحطات مؤمنًا دون الحاجة إلى موافقة فلسطينية مسبقة. بقاء تواجد دائم لقوات الاحتلال الإسرائيلي في منطقة الغور على امتداد الحدود الأردنية الفلسطينية على طول الضفة الغربية لنهر الأردن. تواجد إسرائيلي في المعابر الحدودية للدولة الفلسطينية "مع مصر والأردن". استمرار السيطرة الإسرائيلية على المجال الجوي للدولة الفلسطينية. منح قوات الاحتلال الإسرائيلي حرية الحركة والوصول إلى محاور المواصلات في عمق الضفة الفلسطينية، ضمن ترتيبات دائمة). ويؤكد راشد أنه من قراءة المواقف الإسرائيلية المدعومة أميركيًا، وقراءة مواقف الفريق الفلسطيني المفاوض من قضايا الحدود والسيادة والأمن، يظهر تباعد المواقف إلى درجة يستحيل جسرها في ظل الاستفراد الأميركي بالعملية السياسية والتفاوضية، وإن تداخل هذه الملفات مع بقية ملفات الحل النهائي والدائم يضع العملية السياسية والتفاوضية برمتها في طريق مسدودة، إذا لم يتم وضع حلول مبدئية تمكن الفلسطينيين من ممارسة حقهم في تقرير المصير واستعادة سيادتهم الوطنية المعطلة، بإقامة دولتهم الفلسطينية المستقلة على كامل الأراضي الفلسطينية المحتلة في عام 1967 بما فيها القدس الشرقية. وهذا يتطلب أن يأخذ المجتمع الدولي دوره في دعم العملية السياسية والتفاوضية في الشرق الأوسط، وكسر الاستفراد الأميركي الموظف لصالح المشاريع التوسعية للاحتلال الإسرائيلي. ويشدد راشد على أن تجاوز المأزق القاتل لمفاوضات القضية الفلسطينية ليس أمامه إلا طريق وحيد هو العودة إلى القرارات الدولية ذات الصلة وتطبيقها، وإلا فإن العملية التفاوضية، في حال استمرت وهذا مستبعد، ستبقى تدور في الحلقة المفرغة للإملاءات الإسرائيلية والتواطؤ الأميركي معها، ومع مرور الوقت ستتضاءل فرص حل على أساس دولتين، وسيُفرض واقع جديد ينشئ صراعًا من نوع مختلف تمامًا، يدور حول دولة ثنائية القومية كخيار وحيد متبقٍ أمام الفلسطينيين. وبذلك تعود عجلة التاريخ إلى ما قبل عام 1947 والقرار (181). وما رفضته الحركة الصهيونية ورعاتها الإمبرياليون آنذاك، سيكون مطروحًا مرَّة ثانية كموضوع للصراع، فليس لدى الفلسطينيين ما يخسرونه أكثر، وإذا كان المطروح إسرائيليًا وأميركيًا إغراق الفلسطينيين في دوامة الحلول الجزئية والمنقوصة والانتقالية طويلة الأمد لتكريس الاحتلال والهيمنة الإسرائيلية، يبقى بمقدور الفلسطينيين قلب الطاولة على الإسرائيليين والأميركيين، بحل السلطة الفلسطينية، ووضع إسرائيل أمام مسؤولياتها كقوة احتلال، وأن تختار إسرائيل بين إنهاء احتلالها للأراضي الفلسطينية، والتسليم بحقوق الشعب الفلسطيني المترتبة على ذلك، أو المضي في احتلال الأراضي الفلسطينية، وتجشم نتائج تعنتها بفتح الصراع مرَّة ثانية على أساس (دولة ثنائية القومية). محمد الحمامصي
مشاركة :