ساراييفو (أ ف ب) - بعد إنجاز القضاء الدولي مهمته وإيداع الزعيم العسكري السابق لصرب البوسنة راتكو ملاديتش السجن مدى الحياة، سيكون من الصعب على البوسنة طي صفحة حرب أوقعت أكثر من مئة ألف قتيل وشردت أكثر من مليونين. وإن كان الحكم الصادر عن المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة ينذر بنهاية الإفلات من العقاب لمرتكبي مثل هذه الجرائم في العالم، إلا أن المدعي العام في المحكمة سيرج براميرتز حذر بأن القضاء لا يمكن أن يحقق وحده "مصالحة ينبغي أن تنبع من المجتمع". غير أن هذه "المصالحة متعثرة" في البلقان عموما وفي البوسنة خصوصا، وفق ما كتب مفوض حقوق الإنسان في مجلس أوروبا نيلز موزنيكس عشية صدور قرار المحكمة التي تأسست في 1993 لمقاضاة المسؤولين عن ارتكاب جرائم حرب خلال النزاع في البلقان. وعدد بهذا الصدد "الانقسامات الاتنية التي تطغى" و"إنكار وقوع الإبادة" و"تمجيد مجرمي الحرب" وغيرها من العوامل. وبالرغم من ذلك، يرى خبراء أن المحكمة التي تتخذ مقرا لها في لاهاي، تركت إرثا في غاية الأهمية إذ ساهمت في كتابة تاريخ النزاع ووجهت تحذيرا إلى مجرمي الحرب في العالم بأنه قد ينتهي بهم الأمر هم أيضا في قفص الاتهام، ورسمت معالم قضاء دولي لمثل هذه الجرائم. وتقول المحامية الدولية والباحثة في معهد كلينغنديل ديانا جوف بهذا الصدد أن المحكمة اثبتت أنه "من الممكن مقاضاة شخصيات رفيعة المستوى مسؤولة عن ارتكاب جرائم" خلال هذه الحرب، وهي بالتالي أرست "معيارا ذهبيا" لملاحقة وتحديد جرائم معقدة مثل جرائم الإبادة، فيما اعتبر المدعي العام للمحكمة الخاصة بكوسوفو ديفيد شوينديمان أنه "بات من المؤكد" بفضلها أن مجرمي الحرب لن يفلتوا من العقاب. غير أن المحللة تانيا توبيتش قالت إن الحكم "لا يشكل منعطفا" لأنه لا يترافق مع "صدور تقرير نقدي حيال الجرائم التي ارتكبها معسكر" ملاديتش، مضيفة أن السياسيين من صرب البوسنة "يبقون أسرى تلك الفكرة" التي تقول أن المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة كانت "محكمة سياسية" ألحقت "ظلما تاريخيا بالصرب". ووضعت ملصقات الأربعاء على مسافة بضعة كيلومترات عن نصب مجازر سريبرينيتسا، يظهر فيها ملاديتش باللباس العسكري مع عبارة "أنت بطلنا"، وقد وصف الزعيم السياسي للكيان الصربي في البوسنة ميلوراد دوديتش مجرم الحرب بانه "أسطورة الشعب الصربي". وهذا هو رأي غالبية صرب البوسنة الأرثوذكس الذين يمثلون ما يزيد بقليل عن ثلث سكان البوسنة البالغ عددهم الإجمالي 3,5 ملايين نسمة، مقابل أكثر من نصف من البوسنيين المسلمين و15% من الكروات الكاثوليك. أما الذين يرفضون التعريف عن أنفسهم وفق هذا التقسيم الإتني الطائفي ويشار إليهم بكلمة "أوستالي" التي تعني "الآخرين"، فلا يتخطى عددهم 3% من السكان. وفي مؤشر إلى تهميشهم، ينص الدستور البوسني على أنه لا يمكنهم الترشح للمجلس الرئاسي الثلاثي في بلد يعتقد الكثيرون أنه أقيم على قاعدة غير سليمة. - الخلل في اتفاق دايتون - إن كان اتفاق دايتون الموقع في نهاية 1995 وضع حدا للنزاع، إلا أنه "أعطى القوميين سلطة تكاد تكون غير محدودة على أراضيهم الإتنية" وساعدهم على "تحقيق أهدافهم الحربية بوسائل أخرى سياسية". وبعد ربع قرن على اندلاع النزاع، تتحدث كل المجموعات بدون أي تردد عن مفهوم "الصيغ الثلاث للتاريخ" و"الحقائق الثلاث". والحليف الأول لهذا الصراع على الذاكرة هو نظام الفصل المدرسي الذي أرسي خياره بحجة حماية حقوق الأقليات. وقال نيلس موزنيكس إن مبدأ "المدرستين تحت سقف واحد (...) مستمر رغم قرار محكمة داخلية اعتبرت أنه ينطوي على تمييز" ورغم توصيات منظمات حقوقية. واستمر نظام الفصل بين مختلف المجموعات في الترسخ منذ الحرب. وفي هذا السياق، باتت بانيا لوكا (شمال) مدينة صربية بحوالى 90% بحسب التعداد السكاني بعدما كانت في الماضي متعددة الإتنيات تضم 49% من الصرب و19% من البوسنيين و15% من الكروات. أما ساراييفو التي كانت في ما مضى رمزا للتعددية الثقافية، فهي اليوم مدينة يسكنها 80% من البوسنيين، بعدما كانوا يشكلون نصف السكان في 1991. - "من أجل المستقبل" - ويقول رئيس بلدية سريبرينيتسا (شرق) الصربي ملادن غروجيتيتش إنه يؤمن بالعيش المشترك، ويشير إلى رسم طفل معروض على مكتبه، تظهر فيه فتاة صربية وأخرى بوسنية تقرآن معا الأولى الكتاب المقدس والثانية القرآن. لكنه يضيف "من الواضح أن البوسنة والهرسك لا تعمل بشكل جيد، وأنها دولة تعيش على المساعدات". ويبقى زيجاد باتيتش (40 عاما) مقنعا بالتعايش، وهو من الناجين من مجزرة زيكوفي (شمال) التي قتل فيها 17 من أفراد عائلته بأيدي رجال ملاديتش. وهو يروي قصته في مدارس البلقان مع ضحايا أخرين من صرب وكرواتيين ضمن برنامج "بروبودوكنوست" (من أجل المستقبل). ويؤكد "الذين يدركون أن لا خيار أمامنا سوى العيش معا باشروا عملية المصالحة منذ نهاية الحرب" وهو يقول إن صربيين قتلوا أقربائه، لكن صربيين آخرين جازفوا بحياتهم لإخفائه ومن ثم مساعدته على الفرار.روسمير اسمعيلوديتش © 2017 AFP
مشاركة :