نقلت قناة تلفزيونية إيرانية عن قائد الحرس الثوري الإيراني محمد علي جعفري أن نزع سلاح «حزب الله» اللبناني غير قابل للتفاوض. وينضم هذا التصريح المتجبر إلى طائفة من المواقف الإيرانية التي لا تتستر على مشروعها التوسعي في المنطقة ولعل أقربها ما قاله نائب قائد الحرس الثوري حسين سلامي من أن العالم يجب أن يقبل تلك القدرة لبلاده التي تلعب دوراً مهماً في المنطقة، من شمال البحر الأحمر حتى الشرق الأوسط، وتشديده على أن دورها واضح ولا يمكن إنكاره في سورية والعراق ولبنان. لكن هذا لم يعد مثار دهشة، فجموح نظام الملالي، وتصريحات كوادره المتبجحة ليست عرضاً طارئاً، بل سلوكاً روتينياً لنظام منذ قيامه ظل عالقاً في فكرة الثورة معرضاً عن منطق الدولة، متجاهلاً للقواعد الدولية، والحدود الدبلوماسية الناظمة لعلاقات الدول، وعلى أي حال لم يكن سقف التوقعات عالياً من نظام لم يرع حرمة السفارات منذ أيامه الأولى، ما هو لافت في ميدان اللغو الفارسي المعتاد هذا هو موقف فريق لبناني، استيقظوا فجأة على منطق الدولة، وتذكروا هذه الكلمة السحرية، السيادة، وما انفكوا منذ استقالة رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري، يتباكون على هذه السيادة المزعومة، ويكتشفون في الآن ذاته مواهبهم القصصية في تأليف واقع مغاير لظروف الاستقالة التاريخية، وابتذال الموقف الشجاع للحريري الذي كان بمثابة صرخة في وجه المشروع الإيراني لابتلاع لبنان، عبر وكيله الداخلي «حزب الله»، هذه السيادة العزيزة مر عليها التبجح الإيراني برداً وسلاماً، وما استفز كرامة هذا الفريق التصريحات التي ترد من أرض الملالي، بأنه لا يمكن أن يجري أمر في لبنان دون إذن طهران، أما حين يعترف «مواطن لبناني» بأن ولاءه لولاية الفقيه، وأن حزبه يعتاش على الدعم الفارسي، فإن هذا من طبائع الأمور، التي لا تستدعي فتح ملف السيادة الوطنية، أو التذكير بقيمة الولاء للوطن، الأدهى أن جعبة هذا الفريق لا تنفد، حتى بعد سفر الحريري إلى فرنسا، وبعد عودته إلى لبنان، بل وإعلانه التريث في الاستقالة كفرصة أخيرة لتعديل الميزان المائل. الموضوع إذاً أكبر من مسألة مناكفات سياسية بين محورين كما تزعم الآلة الإعلامية الإيرانية ومن دار في فلكها، وليست أيضاً مجرد حسابات داخلية لتعزيز مواقع هذا الفريق أو ذاك، إنها انخراط أعمى في مشروع ذوبان الدولة اللبنانية في مشروع الملالي، وتالياً استخدام كل الحيل والأكاذيب لكبح أي بادرة لمقاومة هذا الانهيار، والإبقاء على جذوة الدولة السيدة في لبنان، وما فعله الحريري كان لبنة تأسيسية في تيار المقاومة الناهض في لبنان، وخلافاً لـ»مقاومة» نصر الله التي استدعت الخراب ومنطق الاستئثار بالدولة وحولت لبنان إلى ساحة للنفوذ والتوظيف الإيراني، تعيد مقاومة الحريري إعلاء منطق الدولة المستقلة، دولة المواطنة والمساواة، أو بتعبير موجز، لبنان الحر. هذا البعد التأسيسي لاستقالة الحريري يفسر بوضوح هذه الجلبة والعويل الذي استقبله بها فريق إيران في لبنان والمنطقة، ويعكس حالة الهلع التي انتابت المعسكر الفارسي من تحول اتجاه التيار الذي بدا لهم أنه بات يصب بسلاسة في نهر الملالي، الحريري لم يستقل فقط من رئاسة حكومة مغلولة اليد، الحق أنه استقال من دولة النفوذ الإيراني الماضية في التكون، استقال من حالة الإنكار التي ارتضاها تيار الاستقلال اللبناني، على أمل أن يقدر التيار الآخر المنخرط في مشروع إيران هذه التضحيات فيعود إلى رشده، ويكف عن محاولة التغول على المكونات الأخرى في الوطن، استقال الحريري من المشاركة في ديكور مفتعل لدولة تديرها ضاحية صغيرة، يديرها -هذه الضاحية- نظام خارج لبنان، بل خارج العروبة. ما يجري في لبنان الآن هو مرحلة جديدة يرجى لها أن تنتهي إلى عودة لبنان الأسير بصيغته التوافقية، والتمثيل العادل لجميع مكوناته، وخروجه من ثوب الملالي الذي لا يليق به، والذي كان منذ البداية أصل المشكلة، وبداية الخريف اللبناني الطويل.
مشاركة :