في الآونة الأخيرة، برز اهتمام طبي متزايد في تقنية علاجيّة لأمراض في الدماغ (وبعض الاضطرابات النفسيّة أيضاً)، تعرف باسم «التحفيز العميق للدماغ» Deep Brain Stimulation. وعلى رغم أنّها تجريبيّة تماماً، إلا أنها تسجل تقدّماً مستمراً في المراكز الطبيّة المتقدّمة غرباً، مع الإشارة إلى أن «جامعة بيروت الأميركيّة» سجّلت قبل 3 سنوات ريادة عربيّاً في تجربتها علميّاً ضمن مركز لعلاج الأمراض النفسيّة، خصوصاً الكآبة. ليس معروفاً بدقّة الكيفيّة الإيجابيّة التي يؤثّر مرور تيار كهربائي منضبط عبر مستويات الدماغ المختلفة، خصوصاً المنطقة العميقة المحتويّة على تراكيب كالمهاد وكتلة ما تحت المهاد، وقرن آمون، والغدة اللوزيّة وغيرها. ولم يمنع ذلك العلماء من خوض غمار العمل العلمي التجريبي لتلك التقنية التي ظهرت في وقت يتزايد فيه تعامل الطب مع آليات التكامل بين الرقاقات الإلكترونيّة والجهاز العصبي أيضاً. وفي خريف 2017، سجّلت تقنية التحفيز العميق للدماغ نجاحاً مدويّاً، إذ نجحت في إخراج مريض من غيبوبة دماغيّة كاملة سيطرت عليه ما يزيد على 15 سنة. وطبيّاً، هناك صعوبة في التخلّص من غيبوبة الدماغ إذا استمرت أكثر من سنة، ما يعني أن ذلك النجاح ربما فتح آفاقاً لم تكن متوقّعة. في المقابل، أبدى الخبراء حذراً من المبالغة في نشوة الانتصار، وتساوى في ذلك من شاركوا في التجربة الناجحة أو من تابعوها علميّاً. ونُشِرَت تفاصيل التجربة الناجحة في استخدام «التحفيز العميق» على مريض فرنسي يبلغ 35 سنة، في مجلّة «البيولوجيا المعاصرة» Current Biology الأميركيّة. ولأنها شملت مريضاً واحداً، يدرس الباحثون إمكان توسيع نطاق ذلك العلاج كي يطبّق على آخرين، لكنهم يتريّثون انتظاراً لمسار المريض الذي أُخرِجَ من غيبوبة طاولته عقب تعرّضه إلى حادث سير قبل 15 عاماً. إذ ترى أنجيلا سيريغو، وهي باحثة في معهد «مارك جانرو» لعلوم الإدراك في مدينة ليون الفرنسيّة، «أنّ اللدونة في أعصاب المخ Neuroplasticity ربما تتيح ترميم الدماغ حتّى عند تلاشي أيّ فسحة أمل ظاهرياً». وتضيف أّنّه من الممكن تحسين نوعيّة التفاعل بين دماغ المريض والعالم المحيط به. وفي تلك التجربة، زرع الأطباء قطباً كهربائيّاً في عظمة القصّ الصدري، واستخدموها محطة لإرسال نبضات كهربائيّة إلى عصب دماغي أساسي (يخرج مباشرة من الدماغ 12 عصباً مماثلاً)، يعرف باسم «العصب الحائر» Vagus Nerve. ويخرج مباشرة من الدماغ 12 عصباً مماثلاً، تنتشر في الجسم وتؤدّي أدواراً حيويّة في انتظام عمله ككل. ويعمل «الحائر» أساساً على ضبط عمل جهازي التنفس والهضم. واستخدم العصب كأنه سلك موصل، وحمل تيار الكهرباء رجوعاً إلى المنطقة العميقة في الدماغ التي يخرج منها أصلاً. ونجح تحفيز تلك المنطقة في استعادة وظائف حسيّة وإدراكيّة، ما أخرج المريض من غيبوبته المزمنة. وسبق لمراكز طبيّة كثيرة أن أجرت تجارب في التحفيز العميق للدماغ، شملت علاج أمراض عصبية كالصرع («إيبليبسي» Epilepsy) والكآبة المرضيّة الشديدة والإدمان على مواد الكيف وغيرها. تفاؤل وحذر بعد شهر من التحفيز العصبي العميق، أظهر المريض تحسّناً ملحوظاً على مستويات تنبّهه وحركته ونشاط دماغه، وفق ما أكّده معالجوه. وبدأ في التجاوب مع طلبات بسيطة، على غرار متابعة شيء متحرك بعينيه وإدارة رأسه في هذا الاتجاه أو ذاك. وكذلك بدا أكثر يقظةً وقدرةً على الاحتفاظ بتركيزه أثناء قراءة مُعالِجه نصوصاً من كتب. وكذلك، أظهر ردّ فعل على تحفيزات تعرّضه للشعور بالخطر، إذ فتح عينيه جاحظاً كلّما شعر بوجه الشخص الذي يعاينه فوق وجهه، بطريقة لم تحصل منذ سنوات عدّة. في المقابل، لم يفلح العلاج بالتحفيز العميق في إعادة المريض إلى مستويات وعيه الطبيعيّة. وبالنسبة إلى المختصين، انتقل المريض من حال غيبوبة إلى حال «الحدّ الأدنى من الوعي»، وفقاً لما بيّنته عمليات المسح الدماغي التي أظهرت تحسّناً في مناطق الدماغ المسؤولة عن الحركة والشعور والوعي. وفي ذلك الصدد، بيّن توم مانلي، وهو خبير في علوم الدماغ والإدراك في جامعة كامبريدج أنّ التجربة أوصلت المريض إلى حال: «لا يزال فيه الوعي مقوّضاً إلى حدّ كبير، لكن بعكس ما يحصل في حالات الغيبوبة، يُظهر المريض حدّاً أدنى من المؤشرات السلوكية المؤكّدَة التي تدلّ على أنّه واعٍ لنفسه ومحيطه». وأوضح فلاديمير ليتفاك، وهو أستاذ في معهد علم الأعصاب في «يونيفيرسيتي كولدج لندن» أنّ الأمر ربما شكّل تقدّماً مثيراً للاهتمام، «لكنني كنت لأتوخى الحذر إزاء النتائج المسجّلة، إلى أن تتكرر لدى أكثر من مريض». وتابع: «يصعب أن نعرف بالاعتماد على حالة واحدة، مدى إمكان نجاح العلاج عموماً، إذا طُبّق على آخرين».
مشاركة :