بين مدٍ وانحسار تتحرك أمواج المسلحين في شمال سيناء المصرية، بين اعتدال وتطرّف، بين ارتفاع وانخفاض، بين دعوة وكمائن وإصدارات… وتفجيرات؛ تتدحرج الأمواج المتشددة الحائرة دون جدوى في ظل تعتيم تحليلي واضح من السلطات المعنية بالأمر. وبعد أن أعلن أبوبكر البغدادي خلافته المزعومة في العراق وسوريا، أصبح قدوة لغيره في المناطق الرخوة عبر العالم، ومن أبرز هذه المناطق محافظة شمال سيناء المصرية، حيث أن الحدود المصرية مع كل من قطاع غزة وفلسطين المُحتلة مصنفة عالميًا من أخطر المناطق الحدودية، والتي ترتخي فيها سلطة الدولة الحقيقية لصالح «السلام» فتنتشر عمليات التهريب على نطاق واسع عبر أكثر من مائتي كيلو متر تفصل بين مصر وفلسطين المُحتلة منها 12 كم تفصل بين مصر وقطاع غزة، تم تشكيل الولاية وتنظيمها في 13 نوفمبر 2014 بقيادة أنصار بيت المقدس التي أعلنت البيعة للدولة. في 8 من يوليو 2014، نظمت جماعة أنصار بيت المقدس عرضًا عسكريًا مسلحًا مكون من أكثر من 10 سيارات دفع رباعي في مدينة الشيخ زويد، وكانوا يرتدون ملابس سوداء رافعين الرايات السوداء، بحوزتهم أسلحة من بينها أسلحة ثقيلة، وطافوا الشوارع المختلفة بقرى جنوبي الشيخ زويد ورفح، وهم يرددون هتافات مناصرة لـتنظيم الدولة وأميرها أبوبكر البغدادي وقاموا بتوزيع جماعة منشورات على أهالي مدينتى رفح والشيخ زويد، تعلن من خلاله مبايعة أبي بكر البغدادي، والانضمام إلى تنظيم الدولة، وتغيير الاسم إلى ولاية سيناء، وإعلان سيناء إمارة إسلامية، وفي خضم تلك الأحداث ظهر نشاط "التنظيم"، الذي كان يستحدث يومًا بعد يوم، حيث انشأوا نظام "الحِسبة"، ومركز للأمن "لاستقبال التائبين"، حسب ما قالت تقارير مصورة بثوها عبر معرفات خاضعة لهم. تعمل قوات حفظ السلام الدولية «الأمريكية» في قلب سيناء، بالتعاون مع القوات المسلحة المصرية، لكن مع الحفاظ على بنود اتفاقية السلام لا يسمح للجيش المصري بالانتشار في سيناء كما يشاء فيتم ذلك بالتنسيق مع إسرائيل.«الحسبة» في سيناء بدأت محاولات تطبيق «الحسبة» في سيناء منذ العام 2011 و2012 مع الانفلات الأمني الذي أعقب ثورة 25 يناير 2011، وكان على شكل تحطيم عدد من المقاهي برفح والشيخ زويد، وكان تبرير ذلك حينها أن هذه المقاهي تُقدم المحرمات لروادها. بعد 3 يوليو 2013، وإعلان خلافة البغدادي 2014، نشطت الجماعات المسلحة في سيناء، واتخذت من مثلث رفح الشيخ زويد العريش منطلقًا لعملها وفرض هيمنتها، وبدأت في تطبيق نظام «الحسبة» ولكن بشكل غير منظم، والآن بدأت المجاهرة بالتطبيق، إيذانًا ببدء مرحلة جديدة تُعبر عن قوة التنظيم وتماسكه في سيناء، والصمود في وجه قوات الجيش المصري وفرض الهيمنة. وفق أهالي المنطقة: "ينصب التنظيم كمائنه بشكل مؤقت بمناطق قرى الشيخ زويد الجنوبية أبو العراج – العجراء – أبو زرعي – أبو رفاعي – اللفيتات – الترابين – الجورة – الوحشي – المهدية – الظهير، وأحيانًا في وسط مدينة العريش بمناطق مختلفة مثل ميدان الفالح – ميدان العتلاوي – ميدان الفواخرية وشارعي القاهرة وبنك الإسكندرية، بخلاف مرورهم دومًا لرصد أهداف لهم سواء كانوا مواطنين أو أفراد من الشرطة والجيش، لاختطافهم أو قتلهم". ودائما ما يقوم بتوزيع منشورات تحذيرية للمواطنين تحثهم على عدم التعاون مع الأمن والجيش المصريَين، وعدم بيع والإتجار في أي نوع من الدخان، ومن يفعل ذلك يلقى آثامه ويصبح دمه مهدورًا. ولم يسلم "الباص" الذي يُقل المعلمين والمعلمات من العريش لمدارس الشيخ زويّد حيث استوقفوهم قبل شهر بمنطقة الخروبة غرب الشيخ زويد وحذروا المعلمات ألّا يخرجن متبرجات – على حد وصفهم – ولا يخرجن للعمل بدون مِحرم وإلا سيقام عليهن الحد، وعندما سألتهم إحداهنّ ما هو الحد، قال لها أحدهم "الجلد، أو ميّة النار.!!"الحرب على التدخين جمع التنظيم المدخنين ونُصحهم وتهديدهم بإقامة الحد عليهم إذا ما عادوا لتناول الدخان، ومن ثّم مصادرة وحرق التبغ و«الدخان العربي» من الأسواق الشعبية والبقالات. مؤخرا أخذ «ولاية سيناء» بتنظيم عمله أكثر فأكثر، فأعلن عن نظام «الحسبة» مُدشنًا أكمنة خاصة لضبط الدخان وتجّار التبغ وزارعي الدخان العربي. تقوم أكمنة التنظيم بتوزيع منشورات تحذيرية على المارة بعدم شرب الدخان والإتجار فيه، وحرق المضبوطات من السجائر والنباتات المخدرة. وظهر ضمن عناصر النتظيم عناصر مخصصة للحسبة يرتدون ثياب كُتب عليها «الدولة الإسلامية – ولاية سيناء – الحِسبة»، وجلدوا شبابًا يشربون الدخّان كما أحرقوا عددًا من السيارات كانت تحمل التبغ بقصد الإتجار، بمناطق جنوب مدينة الشيخ زويد، ورفح، في حي أبو رفاعي وبحبوح والمطلّة والماسورة ومربع البرث. «الحرب على المتصوفين» وحسب الأهالي: "شنَّ التنظيم هجومًا صارخًا على الصوفية ورموزها في منطقة نفوذه، فقام بتسوية القبور التي تعلو على الأرض وتفجير الأضرحة، وتهديد الصوفيين بسيناء، ووصفهم بأنهم «مشركين» وأهدر دمهم إذا عادوا لما نهوا عنه بعد استتابتهم، مؤكدين أنها هذا ضمن عمل «الحسبة» ومهامها". يقوم رجال حسبة التنظيم بتدشين كمائن بمناطق مختلفة أبرزها أبو طويلة وأبو رفاعي والمهدية وأبو زرعي والظهير بالشيخ زويد، والمُطلة والماسورة وسادوت برفح، ويقومون بزيارة الصوفيين في مناطقهم وتحذيرهم بعدم ممارسة طقوس التصوّف أو الاجتماع فيما تسمى بـ«الزوايا»،ومن ثم يقومون في المرة الثانية باختطافهم وتعزيرهم –حسب وصفهم- لمدة 3 أيام، و إجبارهم على التوقيع على «إقرار توبة» وعدم الرجوع للتصوّف وإلا يكون دمهم مهدرًا. وبالفعل زاروا مناطق المزرعة جنوب العريش، والمطار، والجورة والوحشي وحي الترابين بالشيخ زويد واختطفوا مجموعة من كبار السن “متصوفين” لمدة 3 أيام لاستتابتهم وأطلقوا سراحهم مع مزيد من المراقبة لضمان عدم تنفيذ حلقات صوفية للذكر ومجالس بـ«الزوايا» المنتشرة بربوع الشيخ زويد ورفح والخاصة بالطرق الصوفية المختلفة. وظهر في إحدى إصدارات التنظيم ذبح الشيخين الصوفيين قطيفان منصور وسليمان أبوحراز «الأب الروحي للمتصوفين بسيناء». جاء ذلك بعد أن امتد نفوذ التنظيم إلى مدينة العريش، وبدأ باستهداف المواطنين المسيحيين وإحراق منازلهم، ودفع عشرات الأُسر المسيحية إلى النزوح عن سيناء، في مشهد منسوخ عن تجربة التنظيم الأم في العراق وسوريا. تتناثر الأشلاء بين مقاتلي التتنظيم «ولاية سيناء» والقوات المسلحة المصرية، وبين غارة وتفجير، يتحوّل المشهد تدريجيًا إلى ساحة شبه دائمة لحرب لا نهاية لها.حقيقة ما حدث في مسجد «الروضة» الروضة هي قرية تابعة لمركز ومدينة بئر العبد، تبعد عن مدينة العريش حوالي 30 كم غربا، وعن مدينة بئر العبد حوالي 50 كم شرقا، تقطنها عشيرة "الجريرات" التابعة لقبيلة السواركة، تعداد سكانها حوالي 1000 نسمة، معروف عن سكانها اعتناقهم الفكر الصوفي آخذين من كبيرهم "الشيخ عيد أبو جرير" قدوة، حيث إنه زعيم الطريقة الصوفية الأحمدية منذ عشرات السنين، وفقا لرواية أهالي بالمنطقة. نزحت عشرات الأسر من مدينتي رفح والشيخ زويد هربا من بطش آلات الحرب بالمدينيتن وخوفًا من ردود الفعل بعد المنطقة المعزولة على الحدود المصرية مع قطاع غزة، ليستقر بهم الحال في قرية "الروضة" حيث أقاربهم. في يوم الجمعة 24 فبراير 2017، فوجئ المصلون بمسجد "الروضة" أثناء إنهاء خطبة الجمعة، دخول عددًا من المسلحين مدججين بأحدث أنواع الأسلحة، يرتدون زيا موحدا "بنطال أسود مموه، وصديري مموه واقي من الرصاص، وقميص أسود أو بيج"، وملثمين. يقول أحد الشاهدين على الواقعة لـ«العرب» رفض ذكر اسمه خوفًا من المُلاحقة الأمنية، أو استهدافه من قِبل أي عنصر مسلح: "دخلوا علينا بأحذيتهم، بعدما قذفوا المسجد ببعض قنابل الغاز لتثبيتنا، وقاموا بالنداء على 7 أسماء (لشيوخ من القرية كانوا موجودين بالمسجد)، وتلوا بيانًا علينا مفاده إننا مشركين مرتدين، وأنهم حذرونا مرارا أن نعود عن حلقات الذكر التي تُقام بـ "زاوية" قرب المسجد كُل يوم "إثنين، وخميس"، نتجمع في حلقات ذكر ونُقدم وجبة طعام من أبسط ما نملك ببيوتنا، نتآنس بأقربائنا وبعض عابري السبيل". يستطرد: "زارونا قبل أسبوع من الجمعة الدامية تلك، قالوا لا تحتفلون بذكرى مولد النبي، ولا تجلسوا بهذه الزاوية مرة أخرى، وإلا قتلناكم". يمسك آخر بطرف الحديث، وفي طيات وجهه علامات حزن وصدمة، يحكي: "صفوا الشيوخ قدامنا –أمامنا- وبدأوا في تصفية كل المتواجدين بالمسجد"؛ وزعوا أنفسهم وهم قرابة الـ25 أو 30 رجل، بعضهم أقام كمينا على طريق القرية لرصد أي تحرك يفزع لمساعدتنا، وآخرين وقفوا على أبواب المسجد وحوالي 7 أفراد داخل المسجد يقنصون (كُل ما هو ذكر) لم يستثنوا أحدا، رجل أو شاب أو طفل، حتى الشيوخ لم يأمنوا أو يسلموا من بطشهم، أطلقوا الرصاص على صدورنا ورؤوسنا، ونفدت أنا بإصابة خطيرة في ساقي بعدما توهموا أني مُت، والتفتوا للبقية". يتذكر بشهقة ألم: "قام أحد الشيوخ وأمسك بمايكرفون المسجد وصاح فيهم حسبي الله ونعم الوكيل فيكم"، لم يكمل كلمته حتى أردوه قتيلًا بـ 7 رصاصات في جميع جسده. بوهن شديد ووجه عبوس، وقلب باكِ، يقول "س.ش" أحد أهالي القرية: "لم يتركوا أحدا إلا وقتلوه، قاموا بتفتيش "حمامات" المسجد بحثًا عن المتوضئين، من استطاع الفرار من نوافذ المسجد، قطروه حتى قتلوه، وقد وجدنا جثثا لفارين من الموت على مسافة بعيدة من المسجد، والغريب أنّ هناك كتيبة لقوات الجيش المصري تبعد عن المسجد مسافة لا تتعدَ الـ500مترا وربما أقل، لم تفزع لاستغاثتنا، ولم يأتِ أحد لمساعدتنا، وهم يقتلوننا بأريحية تامّة، أخذوا وقت تعدى الـ 35 دقيقة، سبقها إعداد للاقتحام وإقامة الكمين، غير أنهم تسللوا للمسجد سيرا على الأقدام، عابرين حواجز ومتاريس أقمناها بعد تهديدهم المسبق على مداخل القرية ذات الظهير الصحراوي المفتوح، وهم القادمين من مناطق لا نعرفها على متن 3 سيارات دفع رباعي، إن حلقت طائرة واحدة لرصدتهم". وتحدث نجل أحد الضحايا يُدعى "محمد.ع" وكأنه ينفس عن قلبه قبل أن يموت كمدا عما رآه، يقول: "كنت جالس بجوار الباب الرئيسي للمسجد، حيث يجلس كبار القرية في الصفوف الثلاث الأولى، والشباب في الوسط، والأطفال ومن يأتي متأخرًا في الصفوف المتأخرة، وتفاجئت بإطلاق الرصاص، ورأيت الجميع يجري، حاولت الجري معهم إلّا أني رأيتهم يستهدفون من يحاول الفرار، فهناك مجموعة أخرى تقنص من يفر بالخارج بعدما أضرموا النيران في السيارات المتوقفة أمام المسجد، بساحة الرمل، حتى لا يقوم أحد الفرار بسيارته أو يحاول مساعدة الجرحى، كما استهدفوا سيارات الإسعاف التي أتت لتساعدنا بعد وقتٍ طويل من نزيف دم لم أرَ مثله في حياتي، بعد ساعة من الهرج، خرجوا هم بسلام من القرية، وخرجت أنا وشقيقي الصغير الذي نجا من الموت معي بأعجوبة، من إحدى دورات المياه الخاصة بالمسجد التي لم يقوموا بتفتيشها، لأدخل المسجد، أجد أمي تجلس بجوار جثة أبي الذي لم يتبقَ منه سوى الجسد، بعدما انفجرت وتهشمت رأسه إثر رصاصاتهم الغادرة، وأخي الآخر يحملونه مصابا في قدميه. المشهد كان موحشا لا يتخيله أحد، اختلطت الدماء بوجوهنا وجلابيبنا كأننا نذبح في الأضاحي، يقول أحد سكان قرية الروضة التي استهدفتها أكبر عملية مسلحة تشهدها مصر في تاريخها، مستنكرًا تخاذل المسؤولين عن دورهم تجاههم، يحكي: "نقلونا نحن كمصابين والضحايا على سيارات ربع نقل و(تُوكتُوك) حتى مستشفى بئر العبد المركزي لم نجد بها أكياس دم، تعوضنا عن ذلك النزف". وبلهجة حادّة يقول "س.م"، "الحكومة –قاصدا قوتي الجيش والشرطة- تركتنا نموت ونذبح ولم يأتوا إلا لأخذ "اللقطة"، لم يحمونا ونحن من أبلغناهم أن مسلحين هددونا بالقتل قبل الحادثة بأسبوع، لم يأبهوا لحالنا أو ندائنا وطلبنا منهم الحماية المشروعة، لكن قدر الله نافذ، راح –مات- رجال وشباب وشيوخ حتى أطفال القرية كلهم ماتوا لم يبقَ أحد". وأكد أحد الصحفيين بـ "شمال سيناء"، أن كل الشواهد وروايات الأهالي في قرية الروضة، تشير إلى أن ما وراء الحادث شيئا "مُريبا"، و"غامضا". مذبحة الروضة أكبر من فكرة استهداف فئة بعينها لإختلافات أيديولوجية دينية "الصوفية"، أو استهداف فئة بدعوى "معاونتها للأمن".، مستنكرًا إغلاق قوات مشتركة من الجيش والشرطة قرية الروضة بشكل كامل، ومنعهم تواجد أي شخص من خارج القرية، ومنع التصوير في مكان الحادث. وتابع: "حتى مع بدء خروج جنازات القتلى كانت أعداد قليلة من المشيعون يسيرون خلف النعوش، وقوات الأمن تمنع تصوير الجنازات، وتغلق القرية على من تبقى من أهلها من قُدر له النجاة من المذبحة". تقاطرت النعوش، واتشحت القرية بل المحافظة بأكملها بالسواد، من نجى من الرجال والشباب، بات بذهن شارد، وقلب باكِ، لا يُسمع سوى نحيب النساء الثكالى، وصراخ الأطفال الأيتام، وأنين الجرحى، ولم يبقَ من هذا اليوم، سوى دماء اختلطت بـ "سجاد" المسجد، ونعال القتلى التي جُمعت ووضعت بجوار المسجد، تشهد على تنوع الأعمار، وبعض من ملابسهم، وحفنة من أمل في مستقبل أفضل، وتوضيح فعلي من السلطات الحالية، وحلول لوقف نزيف الدم الجارف بسيناء. كان الناتج من ساعات دامية قليلة، مقتل حوالي 309 شخصا، بينهم 35 طفلا، دفنوا في 10 مقابر جماعية، باستثناء من هم خارج القرية، وإصابة حوالي 203 شخصا، بعضهم في حالات حرجة، ليس فقط من أبناء القرية، بل من المسافرين العابرين والمارين على الطريق الدولي الرابط بين "العريش – القنطرة شرق" أمام القرية، ممن توقفوا لآداء صلاة الجمعة، وبعض العاملين في هيئة الطرق والكباري التي تعمل في ترميم الطريق الدولي أمام المسجد المستهدف.;
مشاركة :