الديمقراطية والأسواق العالمية .. حب من طرف واحد

  • 11/27/2017
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

ظهرت في الأوساط الأكاديمية الغربية في السنين الأخيرة، رؤى وطروحات جديدة، تحاول التفاعل مع كافة المتغيرات من اقتصاد وجغرافيا سياسية وعلاقات دولية بقصد بلورة مقاربات، يمكن الاستعانة بها من أجل تقديم أجوبة أو اقتراح حلول، لمختلف الأزمات تحكم حصارها حولنا.أعادت حمى الانفصال الآخذة في الانتشار (كردستان، كتالونيا، بريطانيا، جنوب السودان...)، وارتفاع أسهم التيارات الشعبوية في بورصة السياسة، وقبلهما تسونامي الثورة المعلوماتية التي لا تبقي ولا تذر؛ حيث قلبت كل القواعد وألغت كل الحدود، إلى طاولة النقاش فكرة كانت محط تداول محتشم؛ في كواليس وأروقة الملتقيات الفكرية والمؤتمرات العلمية، عن النظم السياسية متعددة الوكلاء.لا تُعرف تحديدا البدايات الأولى للفكرة، لكن الأضواء سُلطت عليها عند صدور تقرير بعنوان: «أفضل 200: صعود الهيمنة العالمية للشركات». كانت المقارنة بين الناتج المحلي الإجمالي للدول، والمبيعات السنوية للشركات من بين الأجزاء الأكثر إثارة للسجال والنقد. فوفق هذا التقرير؛ من بين 100 اقتصاد في العالم، توجد 51 شركة، وما لا يزيد على 49 دولة. وجبت الإشارة هنا إلى أن عام 2000 كان السنة المرجعية لإنجاز التقرير، ولكم أن تتوقعوا بكم سوف تتحرك النسبة المئوية لمصلحة الشركات في عالمنا اليوم.بالعودة إلى طبيعة النظام السياسي المتعدد الوكلاء نجده عنصرا وسيطا مفردا، يتم إنشاؤه عادة بوساطة أنظمة أخرى. يتصف بجملة من الخصائص من أهمها: الغائية؛ أي أن له هدفا يسعى إليه. التفاعلية؛ إذ بإمكانه أن يؤثر ويتأثر بحسب السياق. الاستقلال الذاتي؛ من خلال القدرة على إجراء تحولات داخلية لتغيير حالاته، ما يكسبه درجة من التعقيد والاستقلالية.يتحدث رواد النظام السياسي المتعدد الوكلاء عنه بنوع من الحماسة، وكأنهم عثروا على الحل السحري لانتشال الإنسانية من أزماتها الضاغطة. فتتطور الدولة - بحسب هؤلاء - إلى نظام متعدد الوكلاء يكون بتفويض السلطة، أو نقل الحقوق السيادية للدولة إلى المؤسسات العابرة للحدود، أو بالاتجاه نحو جعل البنوك المركزية منظمات عامة مستقلة. وهكذا سوف تكتسب النظم السياسية متعددة الوكلاء، في المستقبل هيمنة متزايدة.قد يفقد المبشرون بهذه الفكرة الخيوط الناظمة لأطروحتهم متى اطلعوا على بعض من أعمال الاقتصادي داني رودريك Dani Rodrik؛ وخصوصا مؤلف القيم «مفارقات العولمة» The Globalization Paradox، الذي يشرح فيه بالتفصيل والأمثلة ما أسماه «المعضلة الثلاثية السياسية للاقتصاد العالمي». فمن وجهة نظره، يستحيل أن تحظى أي دولة بالسيادة الوطنية الكاملة وبالديمقراطية والعولمة في وقت واحد.جوهر المعضلة المتأصلة في العالم حاليا، بحسب رودريك، يكمن في أننا لا نستطيع أن نحصل على العولمة المفرطة والديمقراطية. فنحن بحاجة لأن نتخلى عن هدف الدولة القومية، وإذا تعين علينا أن نحافظ على الدولة القومية، ونحتاج إلى العولمة المفرطة حاجة ماسة، فلا بد أن ننسى شيئا اسمه الديمقراطية، وإذا كنا نريد الجمع بين الديمقراطية والدولة القومية، فلنقل سلام الوداع على العولمة العميقة.هل يستطيع أنصار النظام السياسي المتعدد الوكلاء أن يجدوا مخرجا لهذه المفارقة التي لا يتردد هذا الخبير الاقتصادي في تذكيرنا بها؛ بين الفينة والأخرى، بقوله: "كيف يمكننا أن نتعامل مع التوتر القائم بين الديمقراطية القومية والأسواق العالمية؟ أمامنا خيارات ثلاثة: يمكننا أن «نقيد الديمقراطية» كي نقلل تكاليف المعاملات الدولية، ولا نعير اهتماما بالضربة الاقتصادية والاجتماعية التي قد يوجهها لنا الاقتصاد العالمي بعض الأحيان، أو يمكننا أن «نقيد العولمة»، على أمل أن نبني شرعية ديمقراطية في الداخل، أو يمكننا أن «نُعولم الديمقراطية»، على حساب السيادة الوطنية".إذا كنا نريد أن تظل الدولة القومية المقام الرئيسي للسياسة الديمقراطية، ليس لدينا أي خيار سوى أن نرضى بنسخة "رقيقة" وسطحية من العولمة. خيار سهل وواضح المعالم من الناحية النظرية، لكنه علميا صعب التنفيذ، لأن الشعوب لا تعطى حق الاختيار في هذه اللحظة.ربما يجب علينا أن نتخلى عن الديمقراطية، إذا أردنا أن نسعى إلى اقتصاد عالمي كامل العولمة. في الواقع ثمة مخرج لهذا الأمر؛ قد يقدمه أصحاب النظام المتعدد الوكلاء كحجة، مفاده أن نتنازل عن الدولة القومية لا السياسة الديمقراطية، وهذا يعني خيار "الحكومة العالمية". في هذه الحالة، ستكون لدينا مؤسسات عالمية قوية، ذات نفوذ في مجالي التنظيم ووضع المعايير.لا يمكن إنكار جاذبية نموذج الحكومة العالمية، فمن خلاله نستطيع جني فوائد العولمة والديمقراطية في آن واحد. لكن اتباع هذه الفكرة حتى نهايتها، سوف يضعنا بشكل من الأشكال أمام الفيدرالية العالمية، أي نموذج الولايات المتحدة وقد توسع على نطاق عالمي. ولكم أن تتخيلوا وضعية دول العالم وهي أشبه بالولايات الأمريكية في صراعاتها (السياسية، القضائية، الأمنية...) مع السلطة المركزية في العالم.كما أن هذا الخيار تشوبه عدة شائبات، فالعالم ببساطة يتسم بقدر كبير من التنوع بدرجة لا تدع مجالا لأن تنحشر الدول داخل إطار قواعد مشتركة موحدة. باختصار إن فكرة وجود معايير وقوانين عالمية ليست غير عملية فحسب، بل غير مرغوبة أيضا.ثم إن أجندة العولمة تصطدم بالديمقراطية، لا لسبب سوى أنها لا تسعى لتحسين أداء الديمقراطية، بل لتهيئة المناخ للمصالح التجارية والمالية التي تسعى للوصول إلى الأسواق بتكلفة منخفضة.إننا نعتز بديمقراطيتنا وسيادتنا الوطنية، ومع ذلك نوقع الاتفاقيات التجارية الواحدة تلو الأخرى، ونعتبر حرية تدفقات رأس المال سنة من سنن الحياة، ثم بعدها نبحث في الأدبيات الفكرية عن تنظيرات لتبرير الواقع وإضفاء الشرعية عليه كما هو الحال مع أصحاب "النظام السياسي المتعدد الوكلاء". هذا الموقف المتردد والمتناقض من الحتمي أن ينتهي إلى كارثة لا محالة. حينها لن تنفع الألفاظ ولا العبارات ولا الجمل في درئها.Image: Author: محمد طيفوري من الرباطpublication date: الاثنين, نوفمبر 27, 2017 - 22:49

مشاركة :