العلاقة الإشكالية في العالم العربي بين العمل والنهضة

  • 11/30/2017
  • 00:00
  • 11
  • 0
  • 0
news-picture

تشكّل الثورة الإنتاجية والمعرفية للبلدان المتقدمة، الوجه الأبرز لعالمنا المعاصر، فقد حققت هذه البلدان تقدماً مذهلاً في الاقتصاد وراكمت رأسمالاً معرفياً فاق كل التوقعات. من ذلك، ارتفاع الدخل القومي بين عامي 1989 و2015 من 14430 بليون دولار الى أكثر من 52 بليوناً في البلدان الصناعية، ومن 1189 بليون دولار الى 3585 بليوناً في ألمانيا، ومن 5156 بليون دولار الى 16890 بليوناً في الولايات المتحدة، ومن 2819 بليون دولار الى 4545 بليوناً في اليابان. الى جانب هذه الثورة الاقتصادية، سجلت ألمانيا بين عامي 1963 و2013، 375692 براءة اختراع وكوريا الجنوبية 118443 براءة، وفق تقرير المعرفة العربي 2014. في الوقت نفسه، نرى أن الدخل القومي العربي الإجمالي الذي ارتفع الى 5863 بليون دولار لم يحل دون معاناة العرب من الفقر والفاقة، حيث أشار تقرير التنمية البشرية 2016 الى مستويات مرتفعة من شدة الحرمان تتراوح بين 39.3 في المئة في تونس وسورية والعراق ومصر و50.1 في اليمن و54.6 في السودان، وفق تقرير التنمية البشرية 2016. وترافق ذلك مع تخلف الإنتاج المعرفي العربي الذي لم يتجاوز بين عامي 1963 و2013، 1821 براءة اختراع فقط، على رغم التضخم الكبير في عدد الجامعات العربية حيث كان هناك في 2013 – 500 جامعة و9 ملايين طالب و220 ألف أستاذ جامعي – إضافة الى نسبة أمية 22.5 في المئة في 2015. لقد حقق الغرب ثورته الإنتاجية والمعرفية العظيمة على رغم محدودية ثرواته الطبيعية، بفضل نظرته الى العمل وتفانيه فيه الى حد العشق، باعتبار العمل مقوماً أساسياً من مقومات الحداثة والإبداع الحضاري. الأمر الذي نبه اليه رواد النهضة العربية، والرحالون العرب الى الغرب منذ القرن التاسع عشر، الذين أدركوا سر التقدم الغربي المتمثل في الاندفاع في العمل والتضحية من أجله من دون حساب. تناول الرائد النهضوي فرنسيس المراش موقف الغربيين من العمل، يقوله في علماء الغرب في كتابه «رحلة باريس» 1867: «نراهم دائماً على الدراسة منصّبين وعلى الكتب والمطالعات منكبّين ... يشغلون بياض النهار بالتسويد ويشغلون سواد الليل بالتبييض عوض أن يطفئوا بمياه الشباب لهبات الشهوات فنرى بحار التمدن متدفقة من محابرهم». كما لاحظ المراش أن «الجميع في الغرب يشتغلون، يتسابقون في ميادين التمدن والفلاح، عالمين أن الشغل ثورة، وأن الكسل قهقرة، والبطالة فقر وفاقة». أما رفاعة الطهطاوي فقد قال في الغربيين في كتابه «تخليص الإبريز» 1834 «من أوصافهم أنهم لا يكلون من الأشغال، كأن لسان حالهم يقول إن الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما». وإذ يروي أحد علماء اليابان الأوائل مكابدته من أجل النهوض العلمي ببلاده، يقول: «قضيت في الغرب ثماني سنوات كنت أعمل خلالها بين 10 و15 ساعة في اليوم، وفي الليل كنت أراجع قواعد كل صناعة على الطبيعة». كما أدرك الصهاينة سرّ العمل في إنشاء دولتهم، فقد قالت فيهم صحيفة «الكرمل» في 1910: «كلّهم يعملون بجدّ ونشاط فلا تجد أحداً منهم بلا عمل». ووصف جرجي زيدان سياسة اليهود الإعمارية وانكبابهم على العمل في فلسطين قبل وعد بلفور، بقوله: «ممّا يستحق الانتباه أنّ عمل هؤلاء المستعمرين في منازلهم أو معاملهم أو مفارسهم أو مخازنهم مبني على أحدث الطرق العلميّة... فيحق للعقلاء النسج على منوال أولئك المستعمرين». على الضد من تلك الرؤية الثورية إلى العمل ودوره في التقدّم والإبداع الحضاري، نرى أنّ المجتمعات العربيّة تحت تأثير القيم الرعوية المتجذرة في التكوين العربي، لا تزال تنظر نظرة دونية إلى العمل، سواء المهني والصناعي أو الفكري. ما يفسّر محدودية النشاط الابتكاري العربي، وضآلة تصدير المنتجات الصناعية، والاعتماد أساساً على الموارد الأوليّة التي تهيمن على هيكل الصادرات العربية، حيث تشكّل صادرات الوقود 70 في المئة من صادرات المنطقة وفق تقرير المعرفة العربي 2014. ووفق تقرير التنمية 2016، لا تزال نسبة العاملين العرب الأضأل في العالم 42.2 في المئة من السكان مقابل 63.1 في البلدان المتقدمة و60 في المئة في البلدان النامية، كما لا تزال نسبة الإعالة في العالم العربي الأعلى في العالم كلّه باستثناء جنوب الصحراء الأفريقية، نظراً لمحدودية مشاركة المرأة العربية في العمل، الأضأل في العالم كلّه 22.3 في المئة من القوى العاملة. من هذه الأرقام والحقائق الصادمة يجب أن نعيد النظر في واقعنا الاقتصادي والاجتماعي، وأن نكفّ عن اتهام الغرب في تخلفنا، أو نعزو ذلك، جرياً مع الفكر الاستشرافي، إلى طبيعة راسخة وثابتة في العرب تحول بينهم وبين الحداثة وتحكمهم بالعداء للتمون والعيش خارج التاريخ. إنّ أصل النهضة ومبتداها يكمنان في رأينا في «العمل»، ومن تغيير رؤيتنا إليه، وانخراطنا فيه بكل قوانا وبكل شرائحنا الاجتماعية تبدأ نهضتنا الفعلية ونلتحق بركب الحداثة التي طال انتظارها.     * كاتب لبناني.

مشاركة :