د. تيسير التميمي * تضمنت الحلقة السابقة نبذة عن أربعة من مذاهب أهل السنة وهي: الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي، ونلقي الضوء في هذه الحلقة على المذهب الخامس وهو المذهب الظاهري الذي نشأ في بغداد في منتصف القرن الثالث الهجري، وتأتي تسميته نسبة إلى منهجه القائم على التمسك بظاهر النصوص الشرعية: القرآن الكريم الذي هو كلام الله سبحانه وتعالى، والسنة النبوية التي هي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم على الأخذ بإجماع الصحابة، ثم على طرح كل ما عدا ذلك من الأدلة الظنية كالقياس والاستحسان والمصالح المرسلة وسد الذرائع وغيرها.يعتقد الظاهرية أن أصول منهجهم ومدرستهم مستمدة مما كان عليه النبي محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه من غير زيادة ولا نقصان إلا ما يعتري البشر من الخطأ والنسيان، بينما يعتقد مخالفوهم أنهم اخترعوا هذا المنهج وخالفوا فيه جماهير علماء الإسلام، فمنهم من يخرج الظاهرية من عموم العلماء، ومنهم من يقرر بأنهم من علماء الأمة ويقبل اجتهادهم وبأنهم يدخلون في الإجماع الذي لا يصح من دونهم.مؤسس هذا المذهب هو الإمام داوود بن علي الأصفهاني الظاهري ولد سنة 201 ه، عاش في بغداد وعاصر الإمام أحمد بن حنبل، وعاصر محنته في خلق القرآن، وصفه الحافظ الذهبي بأنه (الإمامُ البحرُ العلاَّمة، عالمُ الوقت بصيرٌ بالفقه، عالمٌ بالقرآن حافظٌ للأثر، رأسٌ في معرفة الخلاف ومن أوعيةِ العلمِ، له ذكاءٌ خارقٌ وفيه دِينٌ متينٌ)، وهو أول من صرح بالأخذ بظاهر القرآن الكريم وصحيح السنة النبوية وفق حرفية النص، وتَرْكِ الاستعانة بالأدلة العقلية والرأي والتأويل، توفي سنة 270 ه.وقد أصل الإمام الفذّ أبو محمد علي بن حزم الأندلسي الظاهري هذا المذهب تأصيلاً كاملاً، بل يقرر مصنفون كثيرون بأن المذهب الظاهري لم يكن ليبرز لولا ظهور الإمام ابن حزم، ولد ابن حزم عام 384 ه، ونشأ في الأندلس التي كانت في تلك الفترة ميداناً للصراع والاضطراب السياسي، وعلى الرغم من ذلك فقد كان عصر ابن حزم هو عصر العلم حقاً، فكان عالماً في التفسير والحديث والفقه والتأريخ والشعر وفي الأديان والفرق، درس الفقه المالكي ثم الشافعي وبعد ذلك انتقل إلى الفقه الظاهري فتبناه ودافع عنه.وهناك من يعدُّ الإمام الشوكاني صاحب «نيل الأوطار» من علماء المذهب الظاهري، والحقيقة أنه لم يكن ظاهرياً إلا أنه من المتعاطفين مع أهل الظاهر، فكان كثير النقل لمذهبهم وآرائهم، وكثير التنديد بمعارضي فقههم.والخلاصة أن الظاهرية هم من فقهاء المسلمين وأهل السنة، أصابوا في مسائل كثيرة كغيرهم، وأخطأوا في مسائل أخرى كثيرة كغيرهم أيضاً، وهذا لا ضير فيه، فقد قال صلى الله عليه وسلم «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر»، (رواه البخاري)، وقد انتشر هذا المذهب عقوداً من الزمن عديدة، حيث ظل متبعاً إلى منتصف القرن الهجري الخامس ثم اضمحلَّ بعد ذلك، وقد أسهبتُ في التعريف بهذا المذهب نظراً لقلة انتشاره ومعرفة الناس به، وبالأخص أن كثيراً من الباحثين اليوم وطلبة العلم وبعض الصروح العلمية الإسلامية بدأت بإحيائه. هذه أشهر المذاهب الفقهية السنية التي انتشرت في العالم الإسلامي بفضل أئمتها وتلامذتهم، أما المذاهب الأخرى فهي كثيرة جداً ربما زادت على الأربعين بكثير لكنها لم يكتب لها الانتشار كمذهب الليث بن سعد وابن جرير الطبري وعبد الرحمن الأوزاعي وغيرهم.تتميز المذاهب الفقهية التي استعرضتها في هذه السلسلة بالاختلاف عن بعضها في مناهج الاجتهاد والاستنباط التي اعتمدها أئمة هذه المذاهب، وفي اختيارات كل إمام فيما يأخذ به من الأدلة. * قاضي قضاة فلسطين سابقاً
مشاركة :