تصوّرات حول القمة العربية الثقافية

  • 12/1/2017
  • 00:00
  • 15
  • 0
  • 0
news-picture

قبل نحو ثلث القرن، صدرت «الخطة الشاملة للثقافة العربية» التي وضعتها المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، وقبلها بقليل أَعدَّت المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة «الاستراتيجية الثقافية للعالم الإسلامي»، التي اعتمدها مؤتمر القمة الإسلامي السادس في دكار سنة 1991، واعتمد صيغتَها المعدلة المؤتمرُ الإسلاميُّ العاشر لوزراء الثقافة، الذي انعقد قبل أسبوع في الخرطوم. وسواء في الخطة أو في الاستراتيجية، عُولجت قضايا الثقافة من جوانبها المتعددة، وبُحثت المهام الموكلة إلى العمل الثقافي المشترك على مستوى الحكومات، وعلى صعيد منظمات المجتمع المدني، وطُرحت مقترحات وجيهة للنهوض بالثقافة من النواحي كافة، باعتبارها رافعةً للتنمية الشاملة المستدامة. وإذا كان الرصيد التنظيري للمشروعات وللبحوث والدراسات حول قضايا الثقافة، وعن المشكلات التي تعوق العمل العربي والإسلامي الثقافي المشترك، يعرف كثافةً تشكل ثروة فكرية هي موضع التقدير من الجميع، فإن رصيد التطبيقات الميدانية للمشروعات، والترجمة العلمية لنتائج البحوث والدراسات إلى مبادرات ملموسة، لا يَتَنَاسَبُ مع ذلك كلِّه. وهو الأمر الذي يعود إلى تَراَجُعٍ في الاهتمام بالثقافة في السياسات العمومية، في الغالب الأعم، مما يتمثل في محدودية معدلات الإنفاق على العمل الثقافي، باعتباره، في تقدير غير سليم، يشكل قطاعاً ثانوياً. وهنا تكمن المشكلة الحقيقية، التي هي العقبة الكأداء أمام تطوير الثقافة وإنمائها وتعزيز تأثير الفعل الثقافي في المجتمع، بشكل عام، وإيصال ثمارها من خلال الخدمات الثقافية المتنوعة إلى الجمهور العريض من المواطنين. وبذلك تظل الثقافة في مرتبة متأخرة من اهتمامات الأجهزة الحكومية، مما سيكون له تأثيرات سلبية للغاية على الوعي الثقافي العام، وعلى تحديث المجتمعات وتطويرها والنهوض بها في الميادين كافة. فالثقافة ليست غذاء للروح وللعقل وللوجدان فحسب، ولكنها إنماء للقدرات، وإذكاء للملكات، وإنضاج للمواهب، حتى تكون مصادرَ للطاقة البشرية المنتجة، باعتبارها جزءاً مهماً من الرأسمال المعنوي، الذي لا يقل أهميةً عن الرأسمال المادي، لأن له تأثيرَه القويَّ في دعم التنمية الشاملة المستدامة. وحتى تنال الثقافة النصيب الأوفر من العناية الرسمية، وتحظى بالاهتمام المستحق لها، بحسبانها قطاعاً استراتيجياً، لا بد أن تَتَصَدَّرَ جدول الأعمال للحكومات، مثل الصحة والتعليم والأمن وغيرها من القطاعات الحيوية الأخرى. ولذلك فإن عقد قمة عربية ثقافية سيكون تطوراً نوعياً مهماً بكل المقاييس، نرجو أن يُمهّد لانطلاقةٍ ثقافيةٍ نهضوية، تُعيد للثقافة قيمتَها التي سُلبت منها، وتعزّز تأثيرَها الفاعل على الحياة العامة، فلا تبقى الثقافة للمثقفين، بل تصير غذاء يومياً للفرد وللمجتمع وللشعوب العربية والإسلامية كافة. فالرؤية الواضحة إلى دور الثقافة في تنمية المجتمعات، تنطلق من الإرادة السياسية الواعية والمصمّمة على الخروج بالعمل الثقافي من الدائرة التقليدية الضيقة المحدودة الأفق، إلى الدوائر الأوسع مدى، والأفسح مجالاً، والأعمق تأثيراً على النشاط الإنساني بصورة عامة المنتج للتنمية التي هي الهدف الرئيسُ الذي يتوجّب أن تجتمع حوله الإرادات الحيّة البانية للنهضة العربية الإسلامية. وتأسيساً على هذه المفاهيم، وانطلاقاً من هذا المنظور الفكري، فإن صياغة رؤى متطورة للعمل الثقافي العربي، تتوقف أساساً، على مدى الوعي بالأدوار التي تنهض بها الثقافة، بالمدلول الدقيق والمفهوم العميق، في تطوير المجتمعات، وفي الحفاظ على الهوية الوطنية، وفي اكتساب المناعة لحماية الخصوصيات الروحية والثقافية والحضارية، بحيث يمكن البناء على أساس بعض المنطلقات التي منها إيلاءُ العناية والاهتمام البالغين باللغة العربية، وإحلالها المكانة اللائقة بها في الحياة العامة، ورد الاعتبار لها بحيث تكون لها الأولوية على اللغات واللهجات العامية جميعاً، مع العمل على تطويرها وتحديثها وإغنائها بالمفردات والمصطلحات الجديدة التي تساير المستجدات الحديثة في عالم اليوم، ونشر ثقافة القراءة على أوسع نطاق، تحبيباً فيها، وتشجيعاً عليها، وتقريبُ الكتاب إلى جميع فئات المجتمع، بفتح المكتبات العمومية في المدن والقرى، وفي النوادي الرياضية ودور الشباب، وفي المطارات ومحطات القطار والحافلات، بحيث يكون الكتاب في متناول الجميع، وتصبح القراءة عادة متمكنة من جميع المواطنين من مختلف الأعمار، مع تنظيم مسابقات في القراءة لمزيد من التحفيز للقراءة والحث على الارتباط بالكتاب، وإقامة معارض للكتب في أماكن متعددة وليس في العواصم فقط، وتنظيم قوافل للكتب تطوف عبر الأقاليم. ومنها أيضاً، مراجعة قوانين المطبوعات والتوزيع وكفالة حرية الرأي والتعبير وحماية حقوق المؤلفين، لتيسير حركة التأليف والنشر، ولتوسيع دوائر توزيع الكتاب والمطبوعات عموماً، لتشجيع رواج الكتاب، وازدهار الفكر، وإغناء الثقافة، وشيوع المعرفة، وتنوير المجتمع الذي يصنع النهضة، وتسهيل إجراءات انتقال الكتب بين الدول العربية، وخفض أسعار النقل الجوي للكتب، وفتح المجال الواسع لتَبَادُل الإنتاج الثقافي من دون عوائق، وإقامة المعارض المشتركة للكتب وتبادلُها، والعناية بترقية الإبداع الفني والأدبي. ومن هذه المنطلقات كذلك، تشجيع المبدعين والفنانين، وتأسيس المسارح الحديثة في المدن، وتنظيم قوافل للمسرح المتنقل عبر القرى والأرياف، وإنشاء متاحف للآثار وللعلوم وللفنون التشكيلية، وتطوير ما هو موجود منها، بإدخال التقنيات الحديثة، وصيانة المآثر التاريخية والتشجيع على زيارتها، حتى يقبل الجمهور على ارتيادها والاستمتاع بها، وتوسيع نطاق الجوائز التقديرية والتشجيعية للمبدعين المتفوقين في مختلف حقول الفنون والآداب، ودعم مشاريع الترجمة من اللغات العالمية إلى العربية، والرفع من أجور المترجمين، وتشجيع المبادرات الخاصة للترجمة، والانفتاح على آفاق العلوم والآداب والفنون العالمية، والاقتباس منها، وترجمة أهم مؤلفاتها إلى اللغة العربية، وتقريب الكتب المترجمة من القارئ العربي، حتى يكون على اطلاع ومعرفة بما يجري في العالم كله من تطورات في الفكر الإنساني. إن الثقافة هي روح الحياة وأساس الحضارة، وبدونها تغدو الحياة جامدة.     * أكاديمي سعودي

مشاركة :