بين الإنسان والمكان، جدليةٌ تتجاوزُ الفلسفة، لتصل لعلم النفس، وعلوم الجينات، وهي في المعرض المشترك لكل من الفنانين عمر الراشد، وجعفر العريبي، جدليةٌ فنية، تنعكسُ في اللوحة التشكيلية، لتعبرُ عن هذه العلاقة اللا محسومة، فأي الشيئين يؤثرُ في الآخر، أهو المكانُ في تأثيرهِ على الإنسان، أم الإنسان في تأثيرهِ على المكان؟ هذا ما يطرحهُ الفنانان في معرضهم المشترك، المعنون بـ «ما بين الإنسان والمكان»، بلغةٍ فنية؛ المنطقُ فيها يتمثلُ في تركيب اللوحة ودمج الخامات، والصوت فيها عبارة عن ألوان وأشكال.ففي المعرضٍ الذي افتتحه الفنان الشيخ راشد بن خليفة آل خليفة، الرئيس الفخري لـ «جمعية البحرين للفنون التشكيلية»، مساء الأحد (26 نوفمبر)، واستضافه «عكاس جاليري»، يتناولُ هذين الفنانين، هذه العلاقة الجدلية، فنجدُ عمر الراشد يحصرها المساحات المفتوحة وفي المرأة البحرينية، التي تملأ هذه المساحات، بهيئتها التقليدية، وزيها التراثي، فيما يتجاوزُ جعفر العريبي ذلك الحصر، منطلقاً في فضاءً الرجل، دون أن يحدد طبيعته، ودون أن يشير إليه بوصفهِ رجلُ محلياً، بل يتجاوزهُ للإنسان بشكلٍ عام، بكلٍ ما يشير إليه من رمز، كالعيون، أو شكل الرأس، أو غير ذلك. وبالعودة لأعمال عمر الراشد، نجد الأعمال تدور في إطار المكان «الذي تشكلت فيه طفولتي»، كما يقول، فيما العنصر النسائي، الذي يملأ أعماله «يعكس رمزية المرأة التي تجسدها أمهاتنا، بعبائتهن، وزيهن التقليدي»، لهذا فالراشد جمع بين ذلك المكان، الذي لا يعطيه توصيفاً محدداً، إنما هو «الحيز الذي تجتمعُ فيه تلك النسوة.. أنه مساحات فارغة، لا تتخذ طابعاً محدداً، عدى كونها فسحة لاجتماع هؤلاء النسوة، وهذه الكتل البشرية، التي تعكسُ طابعها هي على هذه الأمكنة، فالمنى الممنوح لهذا المكان، متعلق بتواجد الإنسان فيه». أعتمد الراشد في أعماله على تكرار العنصر النسائي، بكل خفته وتجريديته، وبأسلوبٍ محلي، يعكسه اللون والتكوين، مؤكداً «أننا كمجتمع نعيش عادةً في تجمعات وكتل بشرية مجتمعة، وقد حاولت أن أظهر هذه الكتل بشكلٍ بارز في أعمالي، خاصة وأننا كبحرينيين، مؤسسين على هذا الاجتماع، الذي يتمثلُ في مناسباتنا، أفراحنا وأحزاننا.. أن هذه الكتل دائمة الوجود بكل ما يميزها من عفوية، سواء تلك المتمثلة في جلساتها واجتماعها، أو في حديثها وحكاياتها.. وهذا ما أسعى لتجسيده، عبر إعطائها هذه الأبعاد، من الناحية التكوينية، والموضوعية، إلى جانب خلق ارتباط حسي بين هذه الأعمال والمتلقي»، كما يبين الراشد. ويضيف «يتخذ كلانا، أنا والعريبي، أسلوبين مختلفين جداً، لكننا نتوحد بطابع يشد المتلقي إلى اللوحة، إلى جانب توحدنا في الأحاسيس»، مبيناً أننا «نعيشُ مرحلة الفن الحديث، وهذا الفن، لا يعني أن ترمي ألواناً بعبثية، وإنما هو أن تعطي العمل الفني معناً، وأن تذهب نحو أعمال تعكسُ حالة سيكولوجية ما، وقد حرصنا أن يكون هذا الطابعُ طابعاً فرائحياً». من جهته، عنون الفنان العريبي مجموعته الفنية بـ «أتموسفير»، التي تعني طبقات الغلاف الجوي، مستلهماً من هذه الطبقات، تقسيمات أعماله، التي ينقسم بعذها لعددٍ من الأقسام، وبعضها الآخر ينحصر بين قسمين، و«كل قسم، يمثلُ حالة إنسانية خاصة، إلا أني حاولت قدر الإمكان، أن أخلق ترابط بين هذه الأقسام، حتى لو كانت هذه الترابطات غير مباشرة، ومتوارية». إن الهدف الأساسي من هذه الأعمال هو «الإنسان، الذي قصدت من خلال أعمالي، أن أعطيه الفرصة، ليقدم قراءة جديدة للمفاهيم والأشياء الحديثة من حوله»، يقول العريبي، ويضيف «هذه الأعمال هي امتداد لأعمالي السابقة، لكني قدمتها في هذا المعرض، بخامات جديدة، وتقنيات مختلفة، فمن الأعمال ما هو مرسوم على الحرير، ومنها ما استخدمت فيه بعض أنواع المعادن الخفيفة، إلى جانب أعمال طبقت فيها تقنيات أستخدمها لأول مرة». وجاءت الأعمال التي ضمها المعرض، متنوعة الأحجاح والخامات، إذ نجد أعمالاً بأحجام كبيرة تتجاوز المتر، وأخرى بأحجاز صغيرة لا تتعدى القدم، يعبر الفنانان من خلها عن هذه العلاقة الجدلية بين الإنسان والمكان، وبين كل ما يحيط به، سواء من أشياء أو أحداث، جسدها الفنانين برموزٍ متوارية، تمنحُ المتلقي حرية تأويلها، وقراءتها تركيبياً كعمل كلي. كما اتخذت بعض الأعمال طابعاً سريالياً، يتكأ على المحلية، باستخدام رموزها التراثية، وأخرى ذات طابع إنساني، يشير إلى الإنسان بوصفهِ كائناً من كائنات هذه الأرض، يتمازجُ مع كائناتها، ويندمج في بيئاتها. يذكر أن معرض «ما بين الإنسان والمكان»، يستمر حتى (22 ديسمبر 2017)، بـ «عكاس جاليري».
مشاركة :