منذ أن لاحت في الأفق مظاهر تبعث على القلق المبرر والمشروع، حيال مستقبل عملية المصالحة، خاصة إثر البيان الصادر عن اجتماعات الفصائل الموسع في القاهرة، وما تبعه من ملامة واتهامات متبادلة، ورافقه من خيبات أمل شعبية في قطاع غزة، وضع كثير من الفلسطينيين والعرب أيديهم على قلوبهم، خشية من تعثر آخر لأهم محاولة جادة لإنهاء حالة الانقسام المديد، واستعادة أهم الأسلحة الذاتية، ألا وهي الوحدة الوطنية، التي لا بديل عنها لمواجهة الأخطار المصيرية المحدقة بالمشروع الوطني الفلسطيني، فما بالك إذا كانت مثل هذه الأخطار قد بلغت حداً لا سابق له في الآونة الاخيرة؟. ذلك أن الفلسطينيين شبعوا من حالات الفشل المتعاقبة في إنجاز مهمة إنهاء الانقسام، الذي أضر بصورتهم كثيراً، وألحق بقضيتهم ضعفاً لا يمكن تبريره أو القبول به تحت أي ظرف من الظروف، وبالتالي لم يعد في وسع أبناء هذا الشعب الصابر المرابط رؤية قادتهم وهم يخفقون مرة جديدة في طي هذه الصفحة الكريهة من تاريخهم النضالي المجيد، لا سيما وأن ما تحقق على الورق، وما جرى من تفاهمات وتوافقات وقبلات، وما صاحبه من تصريحات متفائلة، جاء هذه المرة بفضل جهود إقليمية حثيثة، وقفت على رأسها مصر الشقيقة، الأمر الذي قد لا يتحقق مرة أخرى، إذا ذهبت هذه الجهود أدراج الرياح مجدداً. ومع أنني اشارك القلقين بعض قلقهم، وأقاسمهم الاستياء من موجة المماحكات والمناكفات المتبادلة عبر وسائل الإعلام، التي عادت مرة ثانية لتحتفل بالخلافات الفلسطينية المشينة، إثر ما بدا أنه عوائق فنية على طريق المصالحة، إلا أنني لا أزال متمسكاً بتفاؤلي العميق بإمكانية تذليل الصعاب، التي أعتقد أنها كانت متوقعة سلفاً، بل وأكاد أقول طبيعية تماماً، نظراً لما تراكم على طريق المصالحة من إجراءات وتدابير وقوانين متخذة من هذا الجانب أو ذاك، على مدى عشر سنوات كالحات، كانت في حقيقتها خصماً من رصيد الحركة الوطنية الفلسطينية. من كان يعتقد ان دروب المصالحة مفروشة بالورود ومفتوحة في كلا الاتجاهين المستقيمين، ولا مصاعب موضوعية تقف امامها، بعد كل هذه السنوات الطوال، نقول؛ له ان يظن كل الظنون، وان يضرب اخماساً في اسداس، متأسياً على عودة “حليمة الى عادتها القديمة”، اما الذين يدركون حقائق الواقع كما هو، ويعلمون ان لا عصاً سحرية يمكنها ان تعيد الامور الى نصابها بين عشية وضحاها، فإنهم لا يتطيّرون ازاء المصاعب الجزئية، ولا يستبد بهم الذعر امام الازمات الصغيرة، خصوصاً اذا كانت لدى طرفي الانقسام ارادة، احسب انها موجودة بدرجة كبيرة، وكانت لديهم ايضاً مصالح وطنية فعلية، لطي هذه الصفحة المشؤومة. وليس لدي شك في ان قيادة حركة “حماس” الجديدة، قد باتت مقتنعة ان اطالة امد الانقسام لم يعد ممكناً بعد كل هذه التطورات الاقليمية غير المواتية، وان الضرورات الموضوعية الملحة، بما في ذلك الإكراهات المالية، تملي عليها اجراء ما يلزم من مراجعات عميقة، وانه لم يعد من مظلة لها سوى بيت الوطنية الفلسطينية الواسع، وهو امر عبرت عنه على هذا النحو او ذاك القيادة الشابة، التي لم تتورط بالانقسام اساساً، وهذا هو ما قادها الى تصحيح العلاقة مع مصر اولاً، ومن ثم المضي بجدية لا سابق لها على طريق انهاء الانقسام، الذي اصبح منذ مدة طويلة حملاً ثقيلاً لا طاقة لها على الاستمرار في حمله الى ما لا نهاية. وبالمقابل، ليس لدي شك ايضاً في ان حركة “فتح”تواقة، بالمقابل، الى استعادة وحدة الصف الفلسطيني، كونها ام الولد الحقيقية، وحاضنة المشروع الوطني، الامر الذي جعلها تقابل التحولات الايجابية الاخيرة لدى “حماس” بإيجابية اكبر، وان تعمل على الاستثمار في هذه الساحة النادرة، وهي تعي مسبقاً ان التسرع والاستعجال وحرق المراحل، لن تخدم الغاية النهائية الكبرى، حتى لا نقول انها قد تفضي الى عكس ما هو مأمول منها، الامر الذي يستوجب وضع الاسس القوية، وبناء المصدات اللازمة، كي لا نقع جميعنا دون ان ندري، ضحية العواطف الجياشة، وتفشل ريحنا مرة جديدة. في واقع الامر، قطع الطرفان، مسافة لا بأس بها على طريق المصالحة المنشودة، ان لم اقل انهما بلغا نقطة اللاعودة، التي لم يعد التراجع عنها من المسموح به شعبياً ووطنياً باي صورة من الصور، ولا بأي ذريعة من الذرائع مهما كانت وجيهة، وهو ما يعزز اليقين لدينا بأن ما تم انجازه على هذا الطريق، وهو انجاز غير قليل، لا يملك احد التفريط به على الاطلاق، مما يعني اننا قد بتنا نسير على طريق ذي اتجاه اجباري واحد، يفضي الى محطة وصول معلومة، مهما بدت للبعض بعيدة، ونعني به محطة المصالحة الصلبة الاركان، على نحو ما يتطلع اليه كل الذين اعياهم الصبر وهم يقفون على باب انهاء هذا الانقسام الذي طال اكثر مما تتحمله الاوضاع الذاتية الفلسطينية. بكلام آخر، ان المصالحة المرجوة اليوم قبل الغد، ليست مجرد خيار من بين الخيارات الفلسطينية المتاحة، بل هي ضرورة من الضرورات التي لا مفر منها، بحكم طبيعة هذه المرحلة العصيبة، الامر الذي يجعلنا اكثر اطمئناناً من ذي قبل الى ان ما بدأ في القاهرة من خطوات على طريق انهاء الانقسام اللعين، سوف تتواصل بحكم هذه الضرورة، وان ما تنطوي عليه تلك الخطوات من قوة دفع ذاتية ملموسة، قادرة على تجديد الزخم المطلوب لتجاوز كل عثرة متوقعة، وتحقيق الاختراق الذي طال انتظاره، بدليل ان احداً لا يملك خطاباً يمكن ان يبرر به العودة الى المربع الاول، ولا يستطيع طرف اعادة الامور الى سابق عهدها من الخلافات التي لم تعد في الواقع من طبيعة سياسية.
مشاركة :