حركة النهضة، التي تسعى لأن تتخلى عما يربطها بميراث الهوية ما فوق وطنية، تحتاج إلى أن تحسم أمر الازدواجية التي تسيطر عليها، فإما حركة محلية تونسية، وإما فرعا لتنظيم عابر للدول.العرب مختار الدبابي [نُشر في 2017/12/03، العدد: 10831، ص(6)] أثار البيان الذي أصدرته حركة النهضة بشأن تصنيف دول خليجية ومصر للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين على قوائمها السوداء تساؤلات مشروعة حول مبرراته خاصة أنه جاء بعد أكثر من أسبوع على التصنيف، ولم يأت مباشرة مثلما يحصل عادة، فضلا عن أن الحركة جنبت نفسها لأشهر أي تصريحات حول الخلاف بين قطر والرباعي المقاطع لها بما قد يفهم منه انحياز أو تبعية. فما الذي تغير؟ وهل ثمة جهة ضغطت على الحركة حتى تصدر بيانا تعلن فيه تمسكها بالاتحاد الذي يشرف عليه المصري المثير للجدل خليجيا يوسف القرضاوي؟ نتفهم حياد الحركة، التي يوجد قياديون حاليون أو سابقون منها في اتحاد القرضاوي، في الخلاف الخليجي المصري مع قطر كونها حريصة على أن تثبت أنها تحولت فعلا إلى حركة وطنية محلية الاهتمامات والارتباطات، في سياق تعهدات سبق أن قطعتها لدوائر محلية وأجنبية للقبول بها طرفا في الانتقال السياسي منذ الانتخابات الرئاسية والتشريعية عام 2014. وفي سياق هذا الحياد، بادر قياديون بارزون في حركة النهضة إلى التبرؤ من عضوية الاتحاد بمجرد ظهور القائمة الإضافية للشخصيات والكيانات المصنفة إرهابية التي أصدرتها الدول الأربع. وبادر الناطق الرسمي باسم النهضة عماد الخميري إلى القول إن رئيس الحركة راشد الغنوشي متفرغ منذ سنوات لشأن الحركة، وهو ما يعني عمليا أنه ليس طرفا في الخلاف القائم حاليا في الخليج، وأنه لا يتبنى التصعيد الذي يتولاه الاتحاد خدمة لقطر التي تحتضن مقره وترعى اجتماعات قياداته. وظهر جمال العويْ، رئيس مكتب الاتصال بالحركة، ليؤكد أن الغنوشي لم يعد عضوا في الاتحاد منذ الثورة، وأنه التزم منذ سنوات بالتفرّغ للعمل السياسي في تونس، وعن وجود صوره واسمه في الموقع الرسمي للاتحاد إلى حدّ اليوم، رجحّ أنّ الموقع غير محدّث وهو أمر لا دخل للحركة فيه. ومن الواضح أن خيار قيادات الحركة كان تمييع أي صلة لها بالاتحاد دون التبرؤ منه علنا، وسعت إلى تحويل الأنظار من تصنيف الاتحاد وتأثيراته على وضع الحركة، وخاصة محاولاتها للانفتاح على السعودية، إلى قضية شخصية بين الغنوشي وبين بعض المواقع الإخبارية التي أوردت تقريرا تضمن اسمه ضمن القائمة السوداء على خلاف الأسماء الموجودة بالقائمة الرسمية. وسبق أن أصدرت النهضة بيانات تنفي فيها أن يكون الغنوشي صدر منه انحياز لقطر أو تهجم على خصومها، مثل بيانها في 13 يوليو الأخير، الذي فندت فيه ما أسمته بحملة “تضمنت مواقف كاذبة وغريبة عن خطاب الحركة فيها اتهامات لحكام أشقاء في كل من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة”. وجددت “موقفها المبدئي القائم على الدعوة إلى الحوار ووحدة الصف في الأزمة الخليجية الراهنة ودعم مبادرة وساطة أمير الكويت بين الأشقاء في الخليج العربي، انسجاما مع موقف الدولة التونسية”.تضارب النهضة بين الحياد والانحياز وأوحت بعض التصريحات بأن النهضة ترشح الغنوشي للتوسط في الخلاف الخليجي المصري مع قطر، وهو ما يعني أنها ماضية في الحياد، وخاصة في إثبات حسن نواياها تجاه السعودية. فما الذي تغير حتى يعتبر المكتب التنفيذي للحركة “التصنيفات السياسية للإرهاب وإدراج الشخصيات المعتدلة والمنظمات العلمية المتخصصة سببا في إضعاف الحرب على هذه الآفة”. هل كان الأمر مرتبطا بالمؤتمر الصحافي الذي عقده اتحاد القرضاوي الجمعة بالعاصمة القطرية الدوحة، والذي صعد فيه من خطابه تجاه الدول الأربع المقاطعة لقطر، ملوحا بمقاضاتها، ما يعني أن الحركة على علم بتفاصيل المؤتمر، وأنها لا تزال تقيم علاقات متطورة مع قيادات الاتحاد أو البعض منهم خاصة أن هناك قيادات تونسية محسوبة تاريخيا عليها مثل عبدالمجيد النجار ونورالدين الخادمي؟ وهل أن من أوحى للنهضة بإصدار بيان تتبرأ فيه من حيادها تجاه الأزمة القطرية هو نفسه من أعطى التعليمات للاتحاد بالتصعيد في مؤتمره الجمعة؟ هل هو قطر، أم التنظيم الدولي؟ وفي أي سياق يأتي؟ وما علاقته برغبة الدوحة في مشاركة الشيخ تميم بن حمد آل ثاني في القمة الخليجية المقررة في الكويت دون ضمانات ولا تنازلات؟ إن هذه الأسئلة تقود إلى الاستنتاج بأن حركة النهضة، التي تسعى لأن تتخلى عما يربطها بالميراث القديم/ ميراث الهوية ما فوق وطنية، تحتاج إلى أن تحسم أمر الازدواجية التي تسيطر عليها، فإما حركة محلية تونسية، وإما فرعا لتنظيم عابر للدول. فلكل وجه من وجوه تلك الهوية مزايا ومساوئ ولا يمكن لأي كان أن يحتفظ بعدة وجوه طول العمر. وما يشجع عملية الفصل مع البعد الإقليمي أن حركة النهضة سبق لها أن ابتعدت عن الجماعة الأم في سنوات الثمانينات والتسعينات بتحالفها مع حسن الترابي، والخروج على خطها العام في قضايا فكرية مثيرة للجدل، فضلا عن التقارب مع إيران، ودعم صدام حسين في ما بعد غزو الكويت. وتكافح النهضة لتأكيد أنها تحولت إلى حركة محلية لإقناع ساحة سياسية واعية بتاريخ الحركة وقياداتها وخططها وتصريحاتها المتناقضة، وهو ما يفسر تخليها عن مطلب تطبيق الشريعة، واستعدادها لمناقشة قضايا خلافية مثل المساواة في الميراث، ومجاهرة قياديين بارزين فيها بأن لا مشكلة للحركة مع المثلية الجنسية واستهلاك الشباب المخدرات الخفيفة مثل القنب الهندي. ولا شك أن الخلاف الخليجي القطري فرصة لتظهر الحركة، وخاصة رئيسها الغنوشي، أن النهضة محايدة، وأنها تخلت عما يمكن أن يوفره الانحياز لقطر من مزايا لأجل إنجاح الانتقال السياسي في بلاده وتوْنسة الحركة. ويحث نشاط مقربون من الحركة على خطوات أكثر وضوحا باتجاه الحياد، خاصة أن العلاقة المتينة مع الدوحة تنتفي الآن مبرراتها، فقط كانت الفروع الإخوانية في المنطقة تراهن على دعم قطري قوي لاستثمار ثورات الربيع العربي في الوصول إلى الحكم، بمقابل أن قطر كانت تحرص على إظهار قدرتها على الإمساك بناصية إخوان المنطقة لإقناع الأميركيين بضرورة الاعتراف بدورها الإقليمي. ولقد أنهى السيناريو المصري كل تلك الخطط، وخلق مناخا جديدا لا تجد فيه النهضة من خيار أمامها سوى إثبات هويتها المحلية، والتحرك شرقا وغربا لإثبات أنها تتطور باتجاه أن تصبح حزبا مدنيا بخلفيات دينية عامة على شاكلة الديمقراطيين المسيحيين. وربما تحتاج النهضة إلى وقت كي تتخلص من الأفضال القطرية عليها، مثل وجود كادر تابع للحركة في مؤسسات إعلامية قطرية مثل الجزيرة، وخاصة مركز الدراسات التابع لها، أو وجود جمعيات خيرية قطرية ناشطة في تونس جاءت لدعم تجربة سياسية تكون النهضة العنصر الرئيسي فيها (فترة حكم الترويكا). وقد تحتاج، أيضا، إلى وقت ومراجعات أوسع لتفك ارتباطها نهائيا بالتنظيم الدولي الذي استعادت العلاقة معه خلال فترة المهجر (1990 /2010) لضرورات بينها مساعدة عشرات الفارين من أحكام قضائية على الاستقرار، وتوفر مناخ من الحريات يسمح بإدارة الحوار على أمل تجاوز أخطاء الماضي، لكن تبدو مهمة الغنوشي في ذلك قد فشلت، فقد أظهرت الأزمة بين الإخوان والسيسي أن الجماعة الأم لا يمكن أن تتطور إلى تيار إصلاحي، وأن الأزمات سرعان ما تعيدها إلى وجهها الحقيقي. كاتب وإعلامي تونسيمختار الدبابي
مشاركة :