النهضة كانت تعتقد أن الجلوس في المقعد الخلفي لنداء تونس سيسمح لها بأن تتفادى سلبيات الحكم، بحيث يكون النقد موجها للنداء فيما تضمن الحركة موضعا مريحا في السلطة.العرب مختار الدبابي [نُشر في 2018/02/15، العدد: 10901، ص(9)] ربما تكون حركة النهضة قد فقدت أعصابها لكثرة النقد الموجه لها سياسيا وإعلاميا ما جعلها تطلق مواقف غير منسجمة مع مواقفها منذ انتخابات 2014، مثل التلويح بمحاكمة الصحافيين أو الغمز الخفي بأن الحركة لن تقبل استئصالها مثلما فعل إخوان مصر وأنها سترد بقوة، وهو ما فُهم من التصريح الذي أطلقه رئيسها راشد الغنوشي في اجتماع حزبي بإحدى مناطق الشمال الغربي. لكن من يتابع إستراتيجية النهضة منذ 2014 إلى الآن سيكتشف أن تلك المواقف لم تكن ردة فعل غاضبة على مشهد سياسي وإعلامي بالغ في الضغط عليها عبر تركيز الأضواء على مواقفها وتناقضاتها، بل رسائل هادفة من حركة تحسب كل خطوة لها. من الواضح أن الغنوشي الذي يمسك بالقرار السياسي للحركة يقف وراء البيان الذي يلوّحُ بمقاضاة صحافيين ووسائل إعلام، وهذا تأكد خاصة بتزامن البيان مع التصريح الشخصي لرئيس الحركة ذي المنحى التصعيدي، وفي ذلك هدف جلي بجر الساحة السياسية والإعلامية إلى معركة يخطط لها الرجل أسابيع قليلة قبل الانتخابات المحلية (البلدية). أما لماذا هذا التصعيد، فهناك احتمالات متعددة تفضي كلها إلى رغبة قيادة حركة النهضة في منع الانزلاق إلى مشهد سياسي تكون فيه طرفا هامشيا، خاصة في ظل حديث جدي عن أن نداء تونس يفكر بتغيير تحالفه مع الحركة، مستفيدا من أجواء التنافس التي تسبق الانتخابات المحلية، والتي تفرض على كل حزب مهاجمة الآخر دون حساب وجودهما معا في التحالف الحاكم، وستساعد هذه الحملة في كسر واجب التحفظ أو مراعاة التوازن الحكومي، وهي الأرضية التي تؤسس لفك الارتباط. وأعتقد أن حركة النهضة تخطط بدورها لإرباك العلاقة مع نداء تونس في هذه الفترة، وإرسال إشارات قوية عن استعدادها للقفز على التوافق الحالي، بهدف وحيد، وهو التبرؤ من علاقة أفقدتها جزءا لا بأس به من جمهورها التقليدي، ما يهدد بأن تتحول إلى رقم عادي وسط اتهامات صريحة لها من جمهورها، وحتى من بعض القيادات بأنها شرعنت لعودة المنظومة القديمة وسلّمت الثورة للدولة العميقة التي نجحت بذكاء شديد في استعادة المبادرة، مستفيدة من ارتباك القوى المحسوبة على الثورة وحساباتها الحزبية والأيديولوجية. وربما تفكر النهضة في أن فك الارتباط مع نداء تونس سيعفيها من تبعات الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي ساعدت على توسعها من خلال مصادقة كتلتها في البرلمان على قانون المالية وما يحمله من وعود بتعميق أزمة الفقراء وإغراق الطبقة المتوسطة بالضرائب والرفع في مختلف الأسعار بما لا يتماشى مع القدرة الشرائية. والظاهر أن حركة النهضة كانت تعتقد أن الجلوس في المقعد الخلفي لنداء تونس سيسمح لها بأن تتفادى سلبيات الحكم، بحيث يكون النقد موجها للنداء فيما تضمن الحركة موضعا مريحا في السلطة يحول دون محاولات إقصائها، فضلا عن معرفة خفايا الحكم والتدرب على إدارة المؤسسات. لكن تلك الخطة فشلت تماما، وصارت النهضة شريكا مباشرا في ما أفضت إليه الأوضاع من سيطرة الفساد على المشهد العام، ما جعل تونس تدخل نادي القوائم السوداء للاتحاد الأوروبي. إن التحرر من “التوافق المرحلي” هدفه المباشر الهروب من التصنيفات التي تضع النهضة شريكا في تحمل مسؤولية الفساد وزيادة معاناة الطبقات الضعيفة الفقيرة، فضلا عن مسعاها لاستعادة جمهورها الذي تضاءل بشكل لافت بسبب شراكتها في عش الدبابير. لكن ذلك قد لا يكفي، لذلك اضطرت قيادات النهضة إلى خطاب التخويف ليس لخصومها فقط، ولكن لجمهورها، وهو ما يفسر البيان الرسمي للنهضة أو تصريح الغنوشي وما جاء فيهما من حديث عن “مؤامرة”، و“استئصال”، و“حرب أهلية”. ليس مهما أن تنفي النهضة الدلالات التي فهمها الخصوم من رسائل الغنوشي، المهم أنها نجحت في خلق مناخ ملائم لإعادة تجميع الشتات الذي تفرق بسبب البراغماتية وحسابات طمأنة الدولة العميقة محليا، وتبديد مخاوف الدول الغربية ذات النفوذ في تونس. إن خطاب التخويف سيحقق الحد الأدنى منه، على الأقل، وهو تحميس الأنصار للبدء بحملة واسعة لضمان الفوز في الانتخابات المحلية بنسبة مؤثرة، على عكس مرات سابقة راج أن النهضة لم تكن تريد الفوز بمقاعد كثيرة في البرلمان حتى لا يخاف خصومها من حجمها وقدرتها على اكتساح المشهد. فلماذا تسعى الآن إلى التخويف، ولماذا تسابق الوقت لتقوية الصف الداخلي؟ هل للأمر علاقة بتغير المزاج الإقليمي والدولي تجاه التيارات الإسلامية، بما في ذلك من الولايات المتحدة ودول في الاتحاد الأوروبي لم تعد متحمسة لإشراك الإسلاميين في الحكم اعتمادا على التجربة التونسية ذاتها التي تريد النهضة أن تقدمها كنموذج على وجود إسلام نفعي براغماتي بلا أيديولوجيا. آخر الردود، التي تبدد مساعي النهضة، جاءت من الاتحاد الأوروبي الذي وصف حركة النهضة بأنها فرع للإخوان المسلمين، وذلك ردا على احتجاج مكتوب منها على تصنيف تونس ضمن القائمة السوداء للدول التي يتم فيها تبييض الأموال وتمويل الإرهاب. من الواضح أن النهضة تريد أن تتدارك فشل مساعيها لاختراق الجبهة المحلية والخارجية عبر البراغماتية بالعودة إلى ساحتها القديمة، ساحة الجمهور الذي لا تتجمع صفوفه إلا في ظل الخطر والتهيؤ لمواجهة الدولة. لكن هل تقدر النهضة على استعادة ساحتها القديمة، وقد تفرق جمهورها باتجاهات شتى دعويا وحزبيا وسياسيا، أي بهوية نهضاوية قديمة تمنّي جمهورها بتطبيق الشريعة وبعث مؤسسات تنظيمية واجتماعية واقتصادية حاضنة لجمهورها، لتبدو وكأنها تبني مجتمعا موازيا. ثم كيف تقدر على معالجة تعهداتها القديمة بالتحول إلى حزب مدني ليبرالي مدافع عن الحريات الخاصة، وغير معني بتحريم ظواهر مثل المثلية الجنسية، ولا معارض لتعاطي المخدرات الخفيفة (القنب الهندي)؟ والمثير في الاستدارة النهضاوية الجديدة هو الانفتاح المثير للاستغراب تجاه إيران التي كان جمهور النهضة يهاجمها، ويهاجم عناصر إسلامية تونسية دأبت على زيارة طهران. فخلال احتفالية أقامتها سفارة إيران في تونس بمناسبة ذكرى ثورة آية الله الخميني في العام 1979، حضرت قيادات نهضاوية بالجملة مثل راشد الغنوشي وعبداللطيف المكي والعجمي الوريمي والصحبي عتيق ومحرزية العبيدي، فيما سافر رفيق عبدالسلام، صهر الغنوشي والوزير السابق للخارجية في حكومة الترويكا، إلى طهران لحضور الاحتفالات هناك. ربما تكون هذه المواقف مقدمات كي تنقلب النهضة على مواقفها القديمة من الملف السوري وإيران تحسبا للترتيبات التي قد يفضي إليها انقلاب المزاج الإقليمي ضدها. لكن كل هذه التقلبات في المواقف، طلبا للنجاة من ورطة السلطة، لم تحقق شيئا للنهضة سوى أنها راكمت قائمة أعدائها خاصة تجاه ساحة إعلامية متنوعة كان لها دور في التسويق للخطاب الذي سعت من خلاله الحركة للظهور كحزب مدني غير مهموم بالتحريم والتضييق على الناس، فمن سيسوّق مستقبلا للتبدلات المرتقبة لحركة دأبت أن تعيش بوجوه متعددة. كاتب وصحفي تونسيمختار الدبابي
مشاركة :