المؤلف شريف صالح ينسج في روايته الأولى عالمًا افتراضيًّا، جذوره تنتمي إلى عالم الواقع الذي لا ينفصل عنه، بل يكاد يكون هو المسبِّب في اللجوء إليه بكلّ أوهامه.العرب ممدوح فرّاج النّابي [نُشر في 2017/12/03، العدد: 10831، ص(12)]عمل ينطلق من استغراق النساء والرجال في العالم الافتراضي (ريشة الفنان باول كوزينسكي) ينسج شريف صالح في روايته الأولى “حارس الفيسبوك” عالمًا افتراضيًّا، وإن كانت جذوره -في الأصل- تنتمي إلى عالم الواقع الذي لا ينفصل عنه، بل يكاد يكون هو المسبِّب في اللجوء إليه بكلّ أوهامه وأيضًا بأخطاره. الرواية الصادرة حديثًا عن الدار المصرية اللبنانية-القاهرة 2017 (في 192 صفحة من القطع المتوسط) تُقدِّم صورة دقيقة لحياتنا الموازية التي خلقناها (أو توهّمناها) في فضاء العالم الافتراضي؛ حيث صار لكلِّ شخصٍ عالم آخر بديل يهرب إليه. الغريب أنَّ هذا العالم البديل الذي خلقناه لم يتجاوز سوى الحائط الأزرق، ومثلما مُني البشر في الواقع بالهزائم نتيجة إخفاقات جميعها مرتبطة بظروف اقتصادية واجتماعية وسياسيّة قاهرة، أيضًا مُنوا بهزائم في صورة فضائح على الفضاء الافتراضي، بعد أن اخترق هاكرز الموقع وأسقط كل الصفحات، ونشر الشات على المشاع. يوم قيامة افتراضي يتخذ الكاتب من حادثة مُتخيّلة -وإن كانتْ تحقّقت فيما بعد- جوهرًا لروايته، ومن هذه الحادثة التي يصوغها في تساؤل افتراضي “ماذا تفعل لو انهارت صفحتك إلى الأبد مثل ورقة شجر؟ لو أصبح بإمكان أيّ شخص أن يرى الشات الذي تقوم به ويتلصّص على رسائلك الخاصة؟!” يؤسِّس روايته ويتتبع أثر هذا الانهيار على أشخاصها. لا ينتظر الراوي إجابات لتساؤله الافتراضي من المرويّ عليهم، فيعلن قاطعًا عليهم فرصة التخمينات والتأويلات بأن هذا “ما حدث في الفيسبوك حوالي التاسعة مساء أمس انهارت الأيقونات والبروفيلات وألبومات الصور” حتى أطلق عليه المستخدمون “يوم القيامة الافتراضي” من شدّة الأضرار التي لحقت بالجميع. يُقدّم الراوي تأويلات لما حدث وإنْ كانتْ مُفرطة في المبالغة في بعضها، لكن ما يهمّ سياق الحكاية، هو نتيجة ما حدث فقد كانت هذه الحادثة بمثابة “يوم القيامة الافتراضي” بكل ما تحمل الكلمة من حمولات حيث التوازي ليس فقط فيما أثارته مِن ذُعرٍ وخوفٍ وخسارات على كافة مستوياتها، أو في تمثّلها لصورة يوم القيامة وأهواله فما حدث “فتت الوول إلى شظايا وأشلاء” وإنما أيضًا في تحقّق فعل الجزاء والعقاب الذي تعرّض له مستخدمو الفيس جرّاء أعمالهم السرية التي انتهكوا بها حدود الواقع. وهو ما دفع الراوي لأن يتساءل في دهاء “هل مِن الممكن الثِّقَة في الفيسبوك حين يُعيد صفحاتهم مرة أخرى … إلى الحياة؟”. في الحقيقة الانهيار غير المتوقع للفيسبوك كشف عن ضعف وهشاشة العلاقات الإنسانية والاجتماعية بخاصة، وهيمنة القيم الاستعمالية في المعاملات، وأيضًا تورط جميع الشخصيات في علاقات خفية وصلت إلى الابتزاز كما في علاقة عبدالرحمن بمهلبية، ومحاولة الزوج رشدي استغلال انفلاتها لصالحه بمحاولة ابتزاز عبدالرحمن المـُحاسِب ابن الأصول بالحصول منه على مال مُقابل التغاضي عن اتهامات الزوجة له بالتعدي عليها.الراوي يكشف عن العوالم الخفيّة التي تدار خلف صفحات الفيس الزرقاء، وما تعجّ به من خيانات ومؤامرات وعلاقات مريبة تصل إلى التآمُّر ومن ثم يتخذ الراوي من حادثة الانهيار مثالًا لحالة الفوضى والعبثيّة التي انتابت حياتنا وقلبتها رأسًا على عقب، وفي الوقت ذاته يكشف عن العوالم الخفيّة التي تدار خلف صفحات الفيس الزرقاء، وما تعجّ به من خيانات ومؤامرات وعلاقات مريبة تصل إلى التأمُّر كما في علاقة منال بديفيد الناشط الأميركي. المثير حقًّا أن هذه العوالم بكل ما تحمله من نزق وجنون وانتهاك للقدسية والخصوصية لا تنفصل عن واقعنا الأرضي، وإن كان زاد العالم الافتراضي من حدوثها بل ودفع بالكثير من الشخصيات إلى الدخول في معتركها من قبل التجريب أو حتى تعويض ما فشلت في تحقيقه على مستوى الواقع كما في حكاية الأستاذة الجامعية صديقة مهلبية التي “لا تُمارس الدعارة بل فقط تشبع رغبتها في قضاء وقت ممتع مع شباب”. النص حداثي بامتياز، فليس ثمّة حكاية يمكن تلخيصها، فالرواية تنتمي إلى “النصوص الكتابية”بتعبير رولان بارت؛ فثمة حكايات مُتفرِّقَة عن هدى وعبدالرحمن وعلوي ومهلبية وثمة حكاية خاصة مأسوية عن مهلبية وزيجاتها الفاشلة وعلاقتها الصامتة بأبيها، وعلاقتها المادية بإخوتها، ثم حكاية منال المتمردة التي ارتبطت بأستاذها أحمد علوي في علاقة حسيّة، ثمّ تزوجت من مهندس لمدة قصيرة عادت حاملة للقب مُطلَّقَة، فتعيش حياتها متسكعة بين مقاهي وبارات وسط البلد. لكن هذه الحكايات المتفرقة والمتشابكة في علاقات ثنائية مع باقي الشخصيات، يجمعها نزق الفضاء الأزرق أكثر من الواقع العياني، وهذه هي المفارقة. كما أن هذه الحكايات الكثيرة والمتفرِّقة ليست مسرودة بطريقة متصاعِدة زمنيًا (كرونولوجيًا) وبنهاية النص تتشكّل بنيتها، وإنما هي حكايات مُفتّتة (متشظية) أشبه بالستاتوسات بلغة الفيسبوك التي يحرص الجميع على كتابتها على “الوول” الخاص بهم، تعتمد أوّل ما تعتمد على تقنيات كتابية خاصّة أجاد فيها المؤلف، وأوّلها هو اعتماده على زمن تنازلي “أو زمن مقلوب” يبدأ من النهاية إلى البداية. فزمن الرواية الفعلي هو اثنتا عشرة ساعة تقريبًا يبدأ من التاسعة صباحًا، مع الوحدة 36 وهي التي يبدأ بها السرد والمعنونة “بتقرير موقع فيروس“، ثم يبدأ التنازل العددي للزمن وكذلك الوحدات حتى يصل في نهاية الرواية إلى الوحدة رقم 1 المعنونة “بيوم القيامة الافتراضي” في السّاعة التاسعة مساء. وما بين الزمنين تدور أحداث الرواية، وإن كانت ثمّة استدعاءات لأزمنة سابقة، تعود إلى زمن خلافات هدى مع أسرتها حول دراستها، وبالمثل مهلبية وزوجها السابق الشيخ فوّاز وكيف تمّ الزواج وكيف انتهى الطلاق بينهما، وصولا إلى زواجها برشدي، وبالمثل أزمنة استرجاعية خاصة بعلاقة منال بأستاذها وماضيها، ثم في مرحلة لاحقة تعارفها على ديفيد أثناء الثورة. ومع أنَّ الزمن داخلي في معظمه إلّا أنّ ثمّة زمنًا خارجيًا يعود إلى سباق الانتخابات الرئاسيّة بين مُرشح الإخوان ومرشح الثوّرة، والأجواء الانتخابية، وحالة الخواء التي كانت تتسم بها اللجان وفقًا للتقارير التي كانت تبثها الفضائيات والتلفزيون المحليّ، بالإضافة إلى انتقاد مُبطن لتمرير صفقة المنظمات الحقوقية بعد القبض على عناصرها والإفراج عنهم وترحيلهم بسرعة إلى أميركا. كما تُلَمِّح الرواية إلى الدور المشبوه لهذه المنظمات، في صورة الثراء الفاحش الذي ظهر على أعضائها كما ظهر على شخصية منال بشرائها شقة في المبتديان، وكذلك التحولات في شخصية محمد الحسيني الذي كان أوّل مَن أخذ بيد علي نجيب في طريق الشعر وقاده إلى إليوت وعبدالصبور، فيكتشف أنه انقلب على إليوت وانضمّ إلى ابن تيمية. وهو ما يشير إلى التغييرات الأيديولوجية التي لحقت ببنية المجتمع إزاء هزات ما بعد الربيع العربي.رواية حداثية بامتياز الراوي يستعرض مآسي نصف يوم فقط لجميع الشخصيات، فأوقف الزمن على أفعالهم وتصرفاتهم والنهايات التي انتهوا إليها؛ ليكشف لنا فداحة هذا العالم الافتراضي الذي سرق الجميع من واقعهم المبني مع الأسف على قيم استعماليّة وليست قيمًا أَصيلة بتعبير لوسيان غولدمان، فتوسَّلُوا بعوالم افتراضية وهميّة، ومع الأسف كانت أشدّ وطأة من مآسى الواقع الهاربين منه. فرّ الجميع على اختلاف صفاتهم الاجتماعية إلى جنّة الواقع الافتراضي، لكن في لحظة غضب جنوا جميعًا بلا استثناء علقمها بعدما صارت رسائلهم ومراسلاتهم أمام الجميع. عالم المحرومين تشابك العلاقات في العالم الافتراضي يسير على عكس العلاقات في عالم الواقع، التي يمكن وصفها بأنّها علاقات مُنفصلة أشبه بجزر مُتباعدة مع أنّ الكثيرين يسكنون في بيت واحد، كما في علاقات هدى مع عبدالرحمن، ومهلبية بأبيها، وإخوتها بأبيهم. فالعلاقات جميعها فاترة تفتقر إلى الحنان المنتشر ببذخ في التعليقات وفي رسائل الشات، فعبدالرحمن يُضاجع نساء وهميات على الشات في حين يبخل بالجواب على رسالة زوجته هدى بخصوص ابنتهما ليلى. حالة الافتقاد التي تبدو عليها هدى تقودها إلى علاقة تردُّ بها على خيانة زوجها لها في الواقع في العالم الافتراضي مع أحمد علوي. وبالمثل مهلبية المحرومة من عبارة “وحشتيني” مِن رشدي الذي يزورها ليومين في الأسبوع، في حين تنهال عليها العبارة من جميع الأقطار العربيّة. هكذا هرب الجميع إلى العالم الافتراضي كنوع من التعويض. فثمة عالم من المحرومين والمحرومات. إشكاليات الواقع خلقت شخصيات أقرب إلى الشخصيات الضدّ، انسحبوا من واقعهم إلى خلف الشاشات الزرقاء بأسماء مستعارة؛ لتحقيق ما فشلوا فيه في عالم الواقع، فصوفى هوارد تقول إنها “لم يلمسها رجل وتسمح لزيزو بأن يفعل ما يشاء“، بل إن كل ستاتوساتها تشير إلى أنها “بحاجة إلى حضن رجل”. في حكاية رشدي ومهلبية ومحاولة رشدي التغاضي عن أفعالها؛ ثمة تبرير لما تفعله، فهو “كهل في الخمسين من عمره، ملامحه غليظة أكثر مما يجب، وله صلعة كبيرة آخر لمعان“. يتوازى الرجل مع المرأة في الشعور بالافتقاد، فالشاعر علي نجيب خال هدى كان في كل ما يكتبه دليل على افتقاده إلى “حنان امرأة في حياته” فهو فشل مع زوجته السابقة التي أجبرته على الطلاق، وتعيش في شقة في المعادي اشتراها بكل مُدخراته وإرثه من والديه مع ابنته الوحيدة، ومن ثم صرف اهتمامه إلى العصافير فهي ألطف من النساء كما يعتقد، لأنها كما يقول “تغنّي لنا ولا تطلب أي مقابل” ثم يفتح صفحة جديدة يتمكن منها “من الانتقام من بنت البحر ويفضح ألاعيبها“. يتميز الخطاب اللغوي بأنه خطاب ثري متنوِّع فثمة توظيف جيّد في الرواية للمفردات الجديدة التي يعتمدها المدونون في العالم الافتراضى، وأيضًا يتردد شريط لغوي يتضمن مفردات الشارع فيكشف عن سياق اجتماعي أصابه الهوس الجنسي كما في “حلاوتك يا كيداهم”، و”لو بتحبني ليه سيبتني”، و”أحلى اصطباحة”. وفي بعضه يحوي مسحة سخرية سواء في سرد تشابكات العلاقات أو من خلال الحوارات، وهو واضح فيما كتبه الكاهن الأمابيك ردًّا على عدم تصديق وفاة مهلبية، كما يحتوي تمثيلات تعكس خطابًا متزمتًا زاجرًا ينتصر للنسق الديني. كما ثمّة توظيف جيّد لمقاطع من أغنيات وردة وأيضًا بعض الأغاني الشعبية داخل المتن، وكل المقاطع موظَّفة بحرفية شديدة، وفي جميعها تنتصر للحياة. الرواية وإن كانت تستجيب لراهنات العصر الحديث، باتخاذها بنية الفضاء الإلكتروني فضاءً لها، إلا أنّها لا تنساق لهذه التكنولوجيا أو تنحاز لها، بل على العكس تدينها وتُقدِّم صرخة تحذير للحدِّ مِن الإفراط في كشف حيواتنا الخاصّة وتعريتها أمام وَهْمِ الهروب مِن الواقع إلى الفضاء البديل. وفي الوقت ذاته كأنَّها صرخة احتجاج ضدَّ الرأسماليّة المفرطة التي جعلت الإنسان عبدًا لشهواته وأيضًا للآلة. كاتب من مصر
مشاركة :