التفكير بأدوات الماضي

  • 9/20/2014
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

في سنة مضت التقيت في مطار أثينا امرأة يونانية أمريكية كانت تعمل مدرسة لغة إنجليزية لغير الناطقين بها. حدثتني عن تجربتها مع الطلبة السعوديين الذين درستهم في معاهد الولايات المحتدة. امتدحت طيبتهم وكرمهم وسردت تجربتها مع واحد أو اثنين منهم. وبعد أن طاب الحديث رأت بأني على استعداد لسماع الآراء حسنها وسيئها فقالت: اسمح لي أن أقول إن بعضهم على قدر من الغرابة. كثير منهم يمكن أن يؤمن بفكرتين متناقضتين دون الشعور بالتناقض أو الصداع. عندما أقلب الآراء والتحليلات التي تساق اليوم على الأحداث التي تمر بها المنطقة أحس أن ما قالته تلك المرأة صحيحاً ولكن يحتاج إلى تنظير. سأفترض أن الدماغ الإنساني يتكون من حجرات. لكل حجرة وظيفة. لكي ينجز العقل مهمته بنجاح يجب أن تتبادل هذه الغرف التجارب والمعلومات: تقرأ لكاتب أن داعش صناعة أمريكية وتقرأ لنفس الكاتب أن داعش صناعة إيرانية وتقرأ له مرة أخرى أن داعش صناعة أمريكية إيرانية مشتركة ثم تتذكر أنك قرأت لنفس الكاتب مقالاً يؤكد فيه أن أمريكا على وشك ضرب المفاعلات الإيرانية وفي مقال قبله يقول إن خطط ضرب ايران جاهزة ولم يبق إلا إشارة البيت الأبيض. هذا الكاتب وكثير غيره لا يسمح لغرف دماغه بالاتصال أو الاختلاط أو تبادل المعلومات. كل حادثة لها تحليلها المستقل. تقرأ لكاتب آخر أن داعش مخطط أمريكي هدفه العودة لاحتلال المنطقة. ثم تتذكر أن سبق لك أن قرأت له أن أمريكا فرت من العراق مهزومة. حتى هؤلاء الذين يشتمون داعش ويتهمونها بتشويه صورة الإسلام وأن الإسلام منها براء ويؤكدون أنها صناعة أمريكية هدفها حماية نظام الأسد وما أن أعلنت أمريكا نيتها ضرب داعش انقلبوا بشكل مباشر أو غير مباشر ليصبحوا في صفوف داعش. إذا استثنينا أصحاب الأجندات الصريحة أو الخفية وتأملنا في الناس المخلصين من أصحاب النوايا الطيبة سنجد أننا في مواجهة مشكلة ثقافية مركبة تعود إلى الانفصال عن العصر. يمكن أن أختصر رأيي بالقول بأننا نتفرج على مباراة لا نعرف شيئا من قوانينها. كأن تأخذ رجلاً إلى مباراة حماسية بين الهلال والنصر وهو لا يعرف أي شيء عن الكورة. ستجد أن استجابته للمباراة مجزأة. لا تخضع نظرته لنظام موحد يربط بين أحداث المباراة. يلجأ لخياله لسد الفراغات في المعرفة. يستعين بالصراعات والرياضات التي شاهدها من قبل ويفسر بها هذه المباراة ليعطيها وحدة تجعله يحس بعقلانية ما يحدث أمامه. يتخيل من عندياته أسباب تهيج الجماهير والتصارع على كورة واحدة الخ. هذا أقرب شيء للواقع الذي نتابعه. لا يمكن أن تحكم على مباراة أو تستمتع بها إلا إذا أتقنت قوانينها. نحن نعيش في عصر والأحداث التي نتفرج عليها تجري في عصر آخر. معطياتنا الثقافية التي نستخدمها أثناء التفكير في القضايا الثقافية او السياسية المعاصرة مستوردة من عصور تعود إلى ألف سنة خلت. أيام الحروب الصليبية والفتوحات والحروب مع التتار و وامعتصماه. عصور الحروب الدينية وغياب فهم الطبيعة الإنسانية الجديدة وحضور الأسطورة كجزء من أدوات المعرفة المؤكدة وغير ذلك. من عاش حرب تحرير الكويت سيتذكر أن الكلام الذي يقال عن أمريكا اليوم قيل بالحرف الواحد عن أمريكا أثناء تحركها لتحرير الكويت. المعرفة والخبرة لا يعاد استثمارها ولا تتحرك في داخل حجرات العقل لأن الثقافة (الأدوات) التي تملأ هذه الحجرات مستعارة من زمن آخر. نقلا عن الرياض

مشاركة :