قبل أن تكمل عامها الثامن عشر، أصر والد "نجلاء" (اسم مستعار بناء على رغبتها)، على تزويجها برجل في نهاية عقده الرابع؛ طمعاً في ثروته، وخلال أربع شهور هي مدة هذه الزيجة وافته المنية بعد فقدانه الكثير من وزنه، ومرضه الغامض الذي لم تعلم الزوجة الشابة عنه أي شيء، ونسيت مرضه تماماً، وعادت لممارسة حياتها في صحة جيدة. وبعد عامين وأمام ضغط أسرتها وإلحاحها، وافقت على الزواج الثاني وسرعان ما حملت بطفل كتب عليه المرض منذ اللحظات الأولى لميلاده؛ لتظهر عليه أعراض غامضة فشل الأطباء في تفسيرها، من ارتفاع شديد في درجة الحرارة إلى إسهال شديد وذبول ناتج من فقدان الوزن. عند ذلك، شك الأطباء في احتمال إصابة الرضيع بفيروس نقص المناعة البشري وتم إجراء تحليل دم أثبت إصابته بالفعل، تقول نجلاء: "فجأة، وجدت نفسي أنا ورضيعي على الرصيف مصحوبين بوصلة من الإهانات التي لا أعرف سببها ولحقت بي ممرضة تمسك بورقة مكتوب فيها عنوان وزارة الصحة في القاهرة، ونصحتني بالذهاب إليها، فذهبت برفقة والدي في اليوم التالي، وهناك صدمت عندما علمت أنني حاملة فيروس الأيدز، وأنني نقلت العدوى إلى زوجي وطفلي اللذين لا ذنب لهما". على الفور، توجهت "نجلاء" إلى أهل زوجها الأول، لتلقي لهم اللوم عليهم بسبب تزويج ابنهم رغم معرفتهم بإصابته، وتقول: "طردوني مدعين أنني من جلبت الفيروس إليه وليس العكس، وهددوني بفضح أمر مرضي في بلدتي التي تبعد منهم، فتركتهم خوفاً من الفضيحة".اليوم العالمي للأيدز الأول من كانون الأول (ديسمبر) من كل عام، هو اليوم العالمي للأيدز؛ وهو يوم يهدف إلى رفع الوصمة عن المتعايشين مع الفيروس. ومن الأسباب المؤدية إلى ارتباط حمل فيروس نقص المناعة البشري بالوصمة، طرائق الإصابة به؛ وهي العلاقات الجنسية، والتي ترتبط في الأذهان بأنها خارج نطاق الزواج، وكذلك العلاقات الجنسية المثلية، وتبادل استخدام المخدرات بالحقن. وفي إطار هذه المعاناة إذا كان الرجل يعاني بسبب الوصمة المجتمعية فمعاناة المرأة أضعاف مضاعفة؛ والسبب ربط الإصابة بأنها من العاملات في الجنس التجاري، والحقيقة الثابتة هي عدم أحقية أي شخص في محاسبة الآخر على سلوكه. في دراسة أجرتها الجمعية المصرية للدراسات السكانية والصحة الإنجابية عام 2013، ونشرتها جريدة المصري اليوم، شملت الدراسة عينة قوامها 529 من المتعايشين مع فيروس الأيدز منهم 160 سيدة، جاء ضمن نتائجها أن 21% من السيدات أجبرن على تغيير مقار سكنهن، وكانت لديهن صعوبة في الحصول على سكن بسبب إصابتهن بفيروس الأيدز. وأظهرت نتائج الدراسة أيضاً أن غالبية العدوى بين النساء تحدث نتيجة العلاقة الجنسية مع رجال، ونسبة 75% من العينة البحثية اكتشفت إصابتها من خلال إما موت الزوج أو أحد أفراد الأسرة.الطرد والفضيحة كان من الصعب على زوج نجلاء الثاني، معرفة خبر إصابته بفيروس الأيدز، ولكن بعد شهر من تركه منزل الزوجية عاد إليها متقبلاً الأمر، وتقول: "محدش من أهله يعرف، إخوتي بس عارفين، وقريبته بتشتغل في المستشفى القريب من البيت وبروح أخد العلاج من مستشفى أبعد عشان متعرفش وتفضحنا".أقوال جاهزة شاركغرد"اتهمتني أسرته بأنني نقلت العدوى إليه لأنني كنت متزوجة قبله" شاركغرد82% من المتعايشين مع الأيدز في مصر من الرجال و18% من السيدات شاركغرد"كنت على وشك إخبار أختي التي تدرس في كلية الطب بحقيقة مرضي، فقالت إنه عقاب من الله فكتمت سري" مر 17 عام على تعايش نجلاء 35 سنة، مع فيروس نقص المناعة البشري، لكن أصعب ما مر عليها على الإطلاق، كان عندما توجهت إلى جمعية خيرية يديرها شخص معروف عنه التدين والالتزام، وكشفت له سرها أملاً بالحصول على مساعدة مادية، إلا أن الصدمة كانت في كشفه سرها؛ ما نتج منه رفض حضانة استقبال ابنها لأنه مصاب بفيروس مميت، هذه هي المعلومة التي تداولها أبناء بلدتها. كانت نجلاء تنفق على أسرتها من بيع الخضروات، وتعرضت للخسارة بعد تداول معلومة إصابتها وابنها بفيروس مميت، "لم يكن يشتري مني سوى الغرباء عن بلدتي التي قاطعني أهلها". تقول نجلاء: اضطررت بعد هذا الموقف إلى ارتداء النقاب للتخفي عن عيون الناس واستمر الأمر لمدة 5 سنوات، حتى خلعته لخضوعي لعملية استئصال الغدد الليمفاوية شعرت بسببها بالضيق من ارتدائه، ونصحني إخوتي بخلعه، وبقيت بعد ذلك لمدة أسبوعين في المنزل أخجل من الخروج من دونه". الأزمة الثانية التي تعرضت لها نجلاء، كانت عند معرفة صاحبة حضانة الأطفال التي كانت تعمل فيها بحقيقة مرضها فطردتها وعيّرتها بمرضها الذي سببه سلوكها المنحرف؛ تحملت الإهانة بصمت وكادت تموت من الجوع هي وأسرتها، ولكن بمساعدات من أهل الخير تمكنت من بيع الخضروات والبقالة. أنجبت نجلاء للمره الثانية طفلاً غير حامل فيروس الأيدز، وقالت: "اشتقت لإنجاب طفل آخر وكان الطبيب المتابع حالتي أخبرني بأنه أمر ممكن إذا التزمت بالتعليمات وبالفعل أنجبت طفلاً معافًى، وضعته في مستشفى خاص ولم أخبر أحداً بمرضي؛ خوفاً من طردي".وصمة السيدات مزدوجة "السيدات المتعايشات مع فيروس نقص المناعة البشري في مصر مش قادرين يعيشوا"، هكذا بدأ ناصر هاشم، مدير جمعية رؤية لرعاية المتعايشين مع الأيدز، حديثه إلى "رصيف22"، مضيفاً أنه من خلال عمله على مدار 10 سنوات، يرى أن وصمة السيدات مزدوجة لارتباط الإصابة بممارسة الدعارة، لافتاً إلى أن نسبة الإصابة أعلى بين السيدات؛ بسبب قهرهن، وكثيرات منهن محرومات من التعلّم، والتمكّن من حقوقهن، أو الفرض على الشريك استخدام أدوات الحماية أثناء العلاقة الزوجية، حتى مشاركتهن في نشاطات الجمعية قليلة مقارنة بالرجال. وأضاف أن السيدات بغالبيتهنّ يكنّ ضحايا ينتقل إليهن الفيروس من خلال أزواجهن، لكن الوصمة تقتلهن. وفي حالات قليلة، يتحولن متعايشات إيجابيات. وتزداد الوصمة على من أنجبن أبناء يتعايشون مع الفيروس، وهو ما يجعل المأساة أكبر، لأنهن ينسونَ الاهتمام بصحتهن والحصول على العلاج، ويصببن اهتمامهن كله على الأطفال المتعايشين مع الفيروس. وفي كثير من الحالات يتوفى عنهن أزواجهن، فيتحملن ضغوطاً كثيرة من أجل تربية أبنائهن. ودعا مدير جمعية رؤية، إلى رفع الوصمة عن المتعايشين مع الأيدز، لا سيما السيدات، فيكفيهم معاناتهم الجسدية والنفسية بسبب الفيروس. ووفقاً لوزارة الصحة المصرية التي أعلنت في بيان صدر في شهر ديسمبر عام 2016، فإن مصر سجلت 8437 حالة إصابة بالأيدز منذ عام 1986، وحتى تشرين الثاني (نوفمبر) 2016، منها 6882 أحياء. ووفقاً للبيان نفسه، فإن 82% من المصابين من الرجال، و18% من السيدات، وأكثر من 75% من المصابين في الفئة العمرية من 15 إلى 50 سنة.مرض الزوج الغامض تكرر مرض زوجها لسبب غامض لم يكن معروفاً في البداية حتى علم أنه متعايش مع فيروس نقص المناعة البشري، وطلب منه الطبيب في وحدة الفحص المجاني التابعة لوزارة الصحة إحضار زوجته لإجراء التحليل نفسه، تقول "سماح"، (اسم مستعار)، "كنت وقتذاك، حاملاً في الشهر السابع ولم أكن أعرف أي معلومة عن فيروس الأيدز؛ وصدمت حين علمت بإصابتي، توجه كل تفكيري ناحية الجنين الذي لا أعرف كيفية حمايته من الفيروس اللعين، وأي مستشفى يقبل توليدي". تساؤلات عدة أثقلت كاهل سماح التي تعتبر نفسها محظوظة لمقابلتها طبيباً في مستشفى حميات طنطا ساعدها كثيراً من خلال حصولها على عقار منع إصابة الجنين بعدوى فيروس الأيدز، فضلاً عن شرح المعلومات كلها المتعلقة بالفيروس وكيفية التعايش معه، تقول سماح: "أما بالنسبة إلى الولادة، فنصحني الطبيب بأن تكون الولادة قيصرية وإبلاغ الطبيب بأنني مصابة بعدوى فيروس الكبد الوبائي C لكي يقبل توليدي". استمرت مخاوف سماح حول حمل ابنها الفيروس، تشغل بالها، حتى اطمأنت عليه، وتقول: "أكثر ما يؤلمني أنني لا أجد من أشكو إليه وأحكي له ما في داخلي من مشاعر، لأن أسرتي لا تعرف شيئاً عن مرضي، وكانت صدمتي الأقوى عندما حاولت إخبار أختي التي تدرس في كلية الطب وظننت أنها سوف تتفهم طبيعة مرضي الذي لا ذنب لي فيه ورضيت به، لكنها قالت أن هذا الفيروس ابتلاء "بيجي بطريقة غلط للناس اللي مش تبع ربنا أوي ربنا بيحب يعاقبهم بيجيبلهم المرض"، فصمت وكتمت سري في داخلي. تكمل: "مش كل واحد عنده أيدز يبقى عمل حاجة غلط ممكن يكون دم ملوث أو واحدة اتعدت من جوزها مش لازم نحاسبها وكفاية علينا العقاب اللي بناخده". أفصحت سماح عن مشاعر الخوف التي تسيطر عليها عند ذهابها برفقة زوجها إلى المستشفى للحصول على الدواء الذي تحصل عليه كل شهر. والخوف سببه رؤيتها من أحد أفراد أسرتها أو أقاربها وهي تستلم العلاج من وحدة الفحص المبكر في مستشفى حميات طنطا، وتقول: "فكرت في ارتداء النقاب لإخفاء وجهي، لكني أفضل ارتداءه عن قناعة لاهروباً"، وذكرت رؤيتها أحد أقاربها مصادفة في المستشفى وادعاءها أنها جاءت لزيارة قريبة لها مريضة.لوم المرأة الدائم تقول الدكتورة أمل رضوان، المستشارة في العلاقات الأسرية والخبيرة في التنمية البشرية، أن المشكلة في لوم المرأة في جميع الأحوال حتى لو كانت الضحية، أنها تتحمل فوق طاقتها ويتم التعامل معها كأنها عار. وهذا المنظور نفسه الذي يتم من خلاله التعامل مع المرأة سواء المطلقة أو التي تتعرض لخيانة زوجها وذلك لاتهامها بالتقصير في حقه، فضلاً عن حرمانها من الميراث كأنها السبب في إصابة زوجها بفيروس الأيدز. أضافت أن المجتمع يحتاج إلى العودة إلى الدين الصحيح الذي كرّس حقوق المرأة، بعيداً من الموروثات الثقافية الخاطئة، وهو ما يمكن أن يساهم في تغييره رجال الدين والإعلام والدراما أيضاً التي لها دور تراكمي في العقل الباطن الذي يتفاعل معها لاإراداياً، وتشكل الوعي والثقافة والوجدان، بخاصة أننا مجتمع لا يقرأ كثيراً.أكمل القراءة عنف متلاحق "تعرضت لجميع أشكال العنف في حياتي، أنا نموذج لملايين الفتيات في مصر. حرمت من الالتحاق بالمدرسة لأني بنت، وعندما صرت في 13، تزوجت رغماً عني برجل يكبرني في السن"، بهذه الكلمات الصادمة بدأت "منى"، (اسم مستعار)، حديثها عن معاناتها التي بدأت معها منذ ميلادها لكن حافزها لتخطي هذه الصعوبات كان أقوى. تقول منى: "لم أنجب أثناء زواجي الأولى ولم يفكر أحد في عرضي على طبيب، لربما كانت عندي مشكلات صحية يمكن علاجها؛ لكني لم أعد مندهشة فالجهل يؤدي إلى ما هو أصعب من ذلك. كانت المشكلة الثانية في حياتي أنني مطلقة، وعند اكتشاف إصابة زوجي بفيروس نقص المناعة المكتسب "الأيدز" قبل وفاته بثلاثة شهور، اتهمتني أسرته بأنني نقلت إليه العدوى لأنني كنت متزوجة قبله". حاولت منى عبثاً البحث عن معلومات عن فيروس الأيدز وطرائق نقل العدوى من خلال الإعلام المرئي؛ إلا أنها فشلت، وما لم تتمكن من استيعابه عدم الحديث عن الأيدز. وفي عام 2005 بعد إنجاب ابنها الثاني الذي كانت ترضعه حينذاك، علمت بإصابتها قبل وفاة زوجها بثلاثة شهور. تقول منى: "لم أفهم في البداية علاقتي بمرض زوجي، لأنني لم أكن أعي أنه ينتقل من خلال المعاشرة الجنسية، وعندما ذهبت لاستلام التحليل وجدت الطبيب يمسك المظروف الذي يحمل نتيجة التحليل بمنديل ورقي وهو يوجه لي اللوم والسباب وطردني، مردداً: "أنتم مليتم البلد بلا قرف". بعد ذلك، عدت إلى منزلي وأخذت أضع أكياس بلاستيك في يدي أثناء التعامل مع ابنَي، ثم أخذتهما إلى منزل أختي وتركتهما أمام الباب وانصرفت سريعاً، لأنني خفت أن تقبلني أختي وينتقل الفيروس إليها، فقد كنت أظن أن الفيروس ينتقل بالتقبيل أيضاً".حرمان من الميراث بعد وفاة زوج منى، أحرقت أسرته أثاث المنزل كله ومتعلقاتها الشخصية، وطردتها وحرمتها من الحصول على ميراث زوجها. وعندما علم شقيقها بسبب وفاة زوجها قطع صلته بها تماماً من دون أن يناقشها، ومنع زوجته من كشف الأمر. تقول منى: "قررت بعد ذلك، الاعتماد على نفسي احتضنت ابنَي وبحثت عن غرفة صغيرة تضمّنا، سقفتها بمساعدة الجيران، ثم قررت التعلم والعمل، بعد ذلك بسبع سنوات، رزقت زوجاً مخلصاً سليماً معافًى أعاد لي ابتسامتي التي حرمت منها طويلاً، وزادني قوة". اختتمت منى حديثها وهي تردد عبارة: "المرض لا حرام ولا عيب، لكن الجهل والتخلف هو اللي حرام".اقرأ أيضاًمرضى الإيدز السعوديون يفضّلون العيش في السرالحياة السرية للمتعايشين مع الإيدز في مصرمصر لا ترحب بمرضى الإيدز الأجانب على أراضيها بعد اليوم... علياء أبو شهبة صحفية ومدونة عملت في عدة صحف ومواقع إلكترونية منها روزاليوسف والوطن والتحرير.. حصلت على العديد من الدورات التدريبية مع رويترز ودويتشه فيليه ومركز كمال أدهم للصحافة التلفزيونية في الجامعة الأمريكية وحصلت على أكثر من جائزة دولية. كلمات مفتاحية الإيدز مصر التعليقات
مشاركة :