صالح «الراقص على رؤوس الثعابين» يترجّل

  • 12/5/2017
  • 00:00
  • 15
  • 0
  • 0
news-picture

أخيراً، ترجل الراقص لعقود على «رؤوس الثعابين» بلدغة ثعبان من المؤكد أنه أخطأ في طريقة ترويضه. فقد قتل الرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح أمس، وهو يؤدي الرقصة الأخيرة للفكاك من الثعبان الحوثي، الذي يكاد اليوم أن يبتلع اليمن برمته ليرميها في أحضان المشروع الإيراني الطائفي السلالي. ولد صالح لأسرة فقيرة في مسقط رأسه في قرية سنحان في الضواحي الجنوبية للعاصمة صنعاء في 21 مارس (آذار) 1942، إبان حكم الإمامة لشمال اليمن. فقد والده في وقت مبكر، ونشأ في كنف زوج أمه. حصل على قليل من التعليم الأولي قبل أن ينخرط في العمل العسكري منذ سن الـ12 من عمره، حيث غادر إلى منطقة قعطبة جنوباً آنذاك ضمن الجيش الإمامي. لم يكن أحد يتوقع، لهذا الشخص الذي جاء من عائلة تعتمد على الفلاحة ورعي الأغنام، أن يصبح يوماً رئيساً لليمن بشماله وجنوبه وشرقه وغربه، مروضاً للقوى المجتمعية القبلية والمناطق اليمنية على اختلاف تناقضاتها وتبايناتها الجغرافية والثقافية طيلة سني حكمه التي امتدت فوق 3 عقود من الزمن. التحق صالح في الـ18 من عمره، عام 1960، بمدرسة الضباط بناء على وساطة قبلية، قبل أن تجعله الأقدار مشاركاً في دور محدود على متن مدرعة عسكرية في أحداث ثورة الـ26 من سبتمبر (أيلول) 1962 ضد حكم الإمامة الملكية لعائلة حميد الدين التي كانت تلقفت حكم شمال اليمن بعد انتهاء الحكم التركي لصنعاء عقب الحرب العالمية الأولى. لم يكن صالح هو الوجه الأبرز بين الضباط اليمنيين، لكنه بدأ يبرز إلى الواجهة بعد أن أصبح قائداً للواء المجد في محافظة تعز إثر انقلاب المقدم إبراهيم الحمدي على حكومة القاضي عبد الرحمن الإرياني في 13 يونيو (حزيران) 1974، وما تلا ذلك من أحداث قادت إلى اغتيال الحمدي وشقيقه في حكاية يقول خصوم صالح إنه كان طرفاً فيها مع المقدم الغشمي الذي خلف الحمدي لفترة وجيزة قبل أن يلقى هو الآخر حتفه في انفجار بقنبلة في مكتبه سنة 1978. مسيرته على رأس السلطة في17 يوليو (تموز) 1978، انتخب ما كان يعرف بمجلس الشعب التأسيسي، علي عبد الله صالح رئيساً لشمال اليمن، ومن ذلك الوقت بدأ صالح يراقص الثعابين رويداً رويداً ليصنع مجده السلطوي بالحزم حيناً، وبالمداهنة وكسب الولاءات أحياناً، وبضرب الخصوم بعضهم ببعض أحايين أخرى. وعزز صالح قبضته على الجيش وقمع أكثر من محاولة للانقلاب عليه كما فعل بالعسكريين الناصريين بعد أشهر من حكمه. تحالف مع «الإخوان المسلمين» للقضاء على المد اليساري الاشتراكي، فيما يعرف بالمناطق الوسطى المتاخمة لجنوب اليمن قبل إعادة تحقيق الوحدة الاندماجية بين شطري البلاد في سنة 1990. نجح صالح بامتياز في ترويض مراكز القوى القبلية عبر إشراكها في السلطة والثروة، كما فعل مع زعماء قبيلتي حاشد وبكيل، وفي الوقت نفسه مكن لأقاربه وأفراد قبيلته سنحان من كل مفاصل الجيش. وبينما كان حلم الوحدة بين شطري اليمن يراود كل القوى الوطنية منذ عقود، انتهز صالح هذه الرغبة مع الرئيس الجنوبي علي سالم البيض لإعلان وحدة اندماجية بين الشمال والجنوب، سرعان ما بدأت تتآكل بسبب صراع شريكي الوحدة، وهو ما جعل صالح يتحالف مع مختلف القوى في الشمال والجنوب لقمع محاولة الانفصال التي قادها شريكه البيض لتنتهي الحرب في صيف 1994 بانتصار صالح والقوى الحليفة معه. في السياسة الخارجية، كان صالح براغماتياً من الدرجة الأولى. يحاول اللعب على كل الحبال، مستثمراً أوراق «القاعدة» والإرهاب، وجماعة الحوثيين، والقضايا العربية الكبرى. وقف مع صدام أثناء اجتياح الكويت، وعاد وتصالح مع دول الخليج، وكان من أبرز إنجازاته ترسيم الحدود مع السعودية وعمان وطي الخلاف في هذا الملف. يصفه أنصاره بأنه باني اليمن الموحد، ويرى فيه الخصوم مجرد ديكتاتور صغير استغل جهل شعبه وفقره لتوطيد حكمه والتمكين لمراكز القوى لأكل الأخضر واليابس دون إحداث تنمية حقيقية. وعلى الرغم من التعددية السياسية والحزبية المعلنة في البلاد، فإن صالح برع في احتفاظه بالسلطة ومراوغة خصومه من الأحزاب والتيارات الأخرى وتفريخ الأحزاب المعارضة وإضعافها، ما جعله يصبح الحاكم المطلق للبلاد في ثوب جمهوري، كما وصفه خصومه. قاد صالح 6 حروب ضد جماعة الحوثيين المدعومة من إيران، التي نشأت في محافظة صعدة شمال اليمن على يد مؤسسها حسين بدر الدين الحوثي، الذي قتل في نهاية الحرب الأولى سنة 2004. اتهم صالح بأنه كان غير جاد في القضاء على الحركة الحوثية التي حافظت على وجودها بقيادة زعيمها الحالي عبد الملك الحوثي، لجهة أنه كان يريد للحركة أن تكون عامل ابتزاز لدول الجوار، ومحطات لإنهاك حليفه العسكري وغريمه في الوقت ذاته الجنرال علي محسن الأحمر، قائد ما كان يعرف بالفرقة الأولى - مدرع، الذي أصبح نائب رئيس الجمهورية الحالي عبد ربه منصور هادي. في الـ10 سنوات الأخيرة من حكمه، بدأ صالح يمكن عائلته من الاستحواذ على كل السلطة والثروة، فأنشأ الحرس الجمهوري بقيادة نجله الأكبر أحمد وبدأ في تلميعه لخلافته، كما عين أبناء أخيه الأكبر على رأس الأجهزة الأمنية، وبقي أخوه غير الشقيق محمد صالح الأحمر قائداً للقوات الجوية. ومع اندلاع موجة ما عرف بثورات «الربيع العربي» كانت رياح التغيير تهب صوب اليمن، إذ اندلعت الاحتجاجات ضد حكم صالح مطلع عام 2011 وفشل في احتوائها قبل أن يتعرض في العام نفسه لحادثة تفجير المسجد مع رجال حكومته داخل القصر الرئاسي في محاولة من خصومه لاغتياله، لكنه نجا منها بأعجوبة، وقامت السلطات السعودية حينها بنقله مع أركان حكمه إلى المملكة لتلقي العلاج. نجح بعدها الاتفاق الذي عرف بـ«المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية» في وضع طريق آمنة لصالح وحزبه مقابل ترك السلطة لنائبه عبد ربه منصور هادي الذي انتخب رئيساً انتقالياً بالإجماع مطلع عام 2012، ومنحته المبادرة حصانة من الملاحقة القضائية وأعطت حزبه نصف مقاعد الحكومة. الرغبة في الانتقام لم يطب لصالح تركه السلطة وتجريد أقاربه من مناصبهم العسكرية، ويبدو أن روح الانتقام تلبسته تماماً للثأر من القوى التي انتفضت على حكمه، فكانت جماعة الحوثيين التي شرعنت لها انتفاضة 2011 باعتبارها مكوناً وطنياً هي «حصان طروادة» الذي رأى صالح أنه سيمكنه من الانتقام من خصومه. ومع زحف الجماعة من معقلها في صعدة باتجاه صنعاء للانقلاب على حكومة هادي التوافقية، كان صالح يعقد الاجتماعات في منزله بشيوخ القبائل وأنصاره والعسكر الموالين له، ليحضهم على غض الطرف وتسهيل دخول الحوثي إلى صنعاء، وهو ما حدث بالفعل في 21 سبتمبر 2014، وما تلاه من أحداث قادت إلى تحالف صالح مع الجماعة في سلطة انقلابية على شرعية هادي الذي هب تحالف دعم الشرعية بقيادة السعودية لنجدته، في محاولة لا تزال مستمرة لإنقاذ اليمن ومحاولة إعادته إلى المسار الانتقالي. لم يحسب صالح المعروف بدهائه ورغماتيته مخاطر ما أقدم عليه. فقد كان «الثعبان» الحوثي هذه المرة فوق احتمال الترويض، ولم يستطع صالح السيطرة على شريكه المحتفي بالقوة والبطش. فقد تمكن الحوثي من مخازن السلاح والذخيرة وقام بنهبها وسيطر على مقرات الدولة ومؤسساتها ومواردها المالية وأعاد برمجة عقائد أبناء القبائل لتوافق عقيدته المذهبية مستأثراً بكل شيء أمام أنظار صالح الذي لم تعد سلطته العسكرية أخيراً تتعدى حجم مربع أمني في جنوب العاصمة ومسجد وقناة تلفزيونية وحزب كبير من الأنصار المدنيين الذين لا حول لهم ولا قوة. النهاية بات صالح في الأشهر الأخيرة مصدر إزعاج للحوثيين وبات يشكل لهم قلقاً إذا ما استطاع لملمة قوته من جديد، كما أنهم يرغبون في إذلاله والانتقام لمقتل مؤسس الجماعة وللحروب التي خاضتها سلطات صالح ضدهم من 2004 إلى 2014، فكانت خطة الجماعة أن تتخلص منه نهائياً، خصوصاً بعدما شاهدت الحشود المدنية الكبيرة التي استعرضها صالح في ذكرى تأسيس الحزب في ميدان السبعين. يقول اليمنيون في مثل شعبي «نهاية المحنش للحنش»، أي أن مروض الثعابين السامة مهما برع في ترويضها ستأتي نهايته بلدغة من أحدها، وهو ما حدث لصالح الذي طالما تفاخر بأنه «الراقص على رؤوس الثعابين» خلال سنين حكمه. استغل الحوثيون مناسبة «المولد النبوي الشريف» الخميس الماضي لحشد أنصارهم ومسلحيهم إلى ميدان السبعين في صنعاء للاحتفال. كان بإمكانهم اختيار مكان آخر بعيد عن مربع صالح الأمني، لكنها كانت الذريعة للسيطرة على المربع والجامع والميدان والقضاء على نجل شقيق صالح، الذي بات يمثل الذراع الأخيرة لعمه. يبدو أن صالح أدرك أنه في مأزق حقيقي، فهو سيذل أو سيقتل في كل حال، فكانت دعوته في خطابه الأخير للمواجهة العسكرية مع الجماعة وفض الشراكة معها. نجح ليوم واحد في إرباك الجماعة، فقاتلت حراسته بشراسة أمام دبابات الحوثيين، وحاول أنصاره في المحافظات أن يفعلوا شيئاً. كان الوقت ضيقاً، والجماعة المسلحة لا ترحم ولا يهمها كم يسقط من أنصارها. يوم أمس، الرابع من ديسمبر (كانون الأول)، خرج صالح من مربعه الأمني في الحي السياسي بمنطقة حدة في موكب صغير بعد انهيار حراساته رفقة عدد من قيادات حزبه، وتعددت الروايات حول كيفية مقتله لكنها تقود لنتيجة واحدة. تقول إحداها إنه تعرض لكمين على طريق خولان أثناء توجهه إلى مسقط رأسه في سنحان أو إلى محافظة البيضاء في محاولة للنجاة أو إيجاد مقر جديد لقيادة المواجهة، لكن الحوثيين فطنوا له وأنزلوه من السيارة وأعدموه ثأراً لمؤسس جماعتهم. ويتردد أن اثنين من أولاده باتا أسيرين لدى الحوثيين، وسط مصير مجهول ينتظر بقية أقاربه والمقربين منه من كبار الحزب ممن ما زالوا على قيد الحياة. أنصار صالح يرونه الآن بطلاً شهيداً ويقولون: «رغم تحالفه مع الحوثيين، فإنه أخيراً استفاق وقتل وهو يواجههم لاستعادة الجمهورية السليبة». وفيما يرى بعض خصومه أنه استحق جزاءه، يؤمن اليمنيون بقضهم وقضيضهم أن المعضلة ما زالت قائمة، وهي في بقاء الحوثي على صدر صنعاء يعبث وينكل مؤسساً لدولته العنصرية السلالية.

مشاركة :