يبدأ يوم أرباب مهنة "تجليش البحر" مع شروق الشمس، وقبل ازدحام شواطئ الإسكندرية بالمُصطافين والزوار، يغطسون في البحر ويغربلون الرمال بحثاً عن أشياء ثمينة سقطت سهواً من الروّاد. قمنا بجولة بين جليم وسيدي بشر وميامي والعصافرة، في موسمٍ تكثر فيه الرياح فتطرد المفقودات للشواطئ، لنتحدث مع قراصنة الإسكندرية، ونكتشف كيف يتم التنقيب عن مقتنيات الزوار، ونفهم أكثر لمَ يعتبر صيادو المعادن هذه المهنة حلالاً، ورزقاً من الله. "البحر مليان أرزاق وكل واحد ونصيبه". يقول أبو عادل البالغ من العمر 67 عاماً قضى منها 50 عاماً في البحر، فهو في الأصل صياد وكذلك والده وأبناؤه الخمسة أيضاً. يعمل أبو عادل في مهنة "تقليب البحر" بشكل احترافي منذ كان في العشرين حتى اليوم. يبدأ عمله في السادسة صباحاً شتاءً وصيفاً، يذهب إلى أحد شواطئ الإسكندرية، ويبدل ثيابه داخل "عشته" قبالة الشاطئ، فيرتدي بدلة غطس وزعانف ونظارة الغواصين، ويبدأ مهمته. أحياناً، يقضي نهاره كله بحثاً عن قطعة معدنية، ومرات يحصل على قطعة ذهبية بعد دقائق من نزوله البحر، فالأمر، وفقاً له، "ضربة حظ". يقول أبو عادل إنه يجب أن تكون أمواج البحر هادئة، كي يتمكن من عمل "حُفرة" داخل الرمال باستخدام الزعانف، ما أسماه "تهوية الرمل بالزعانف"، حتى يظهر الذهب والكنوز المختبئة. يعتمد أبو عادل على هذه المهنة بشكل أساسي في معيشته، وكثيراً ما عثر على أشياء ثمينة، قائلاً: "لاقيت حاجات غالية، أساور وحلقان وخواتم ودبل وسلاسل كلهم دهب"، مؤكداً أن هذه الأشياء من حقه لأنه عثر عليها وليس لها صاحب، فبالتالي: "حلال عليه"."الشغلانة دي نَفَس ودراسة" عدد الذين يعملون في مهنة "تقليب البحر"، قليل جداً، فهي ليست مهنة سهلة أو مجرد نبش بالرمال فقط، على العكس لها أصول ويجب على من يريد أن يحترفها أن يتدرب كثيراً عليها، بحسب أبو عادل، الذي يؤكد: "الشغلانة دي عبارة عن نفس قوي ودراسة"، فهي تحتاج إلى فترة تعليم طويلة جداً، لأن البعض حين ينزل إلى البحر ويبدأ في الحركة والبحث يمكن أن يُصاب باختناق أو اختلال توازن. ففي بادئ الأمر يشعر المبتدىء بأوجاع قوية، مثله مثل أي رياضي يمارس رياضة قاسية، حتى يعتادها وتصبح ممارستها سهلة بالنسبة له.الأشياء الثمينة لم تعد وفيرة محمود من أشهر وأقدم من مارسوا التفتيش في البحر، يعرفه الجميع، وينادونه بـ"حوده بحر" بسبب حبه للبحر وللتقليب. إنه في السبعين من عمره، ولديه "عشّة" قبالة شاطئ جليم، يضع فيها كل ما يحتاجه من زعانف و"شورت"، فهو لا يحبذ أن يرتدي بدلة غطس كاملة، يمارس تلك المهنة على مدار 50 عاماً، إلا أنه يؤكد أن المهنة ليست كالسابق، إذ لم يعد يحصل على أشياء ثمينة بكثرة.أقوال جاهزة شاركغردمنهم من يقول إن هذه مهنتهم ويتعبون كثيراً في البحث والتفتيش، لذا لن يمنحوا أحداً شيئاً وجدوه بعد تعب شاركغرديجب أن تكون أمواج البحر هادئة، لعمل "حُفرة" داخل الرمال باستخدام الزعانف حتى يظهر الذهب والكنوز المختبئة حين تسأل عن مكانه أو التواصل معه، يجيب جميع الصيادين: "حوده سارح في البحر"، فمكانه معروف إما الشاطىء أو البحر أو المنزل، لا يملك أية وسائل تواصل حديثة، لا هاتف محمول أو حتى منزلي، فهو يقضي نهاره كله في الغطس والتقليب والبحث، تتخلل يومه أوقات راحة يقضيها في تدخين السجائر وتناول أطعمة غير دسمة، حتى يصبح خفيفاً ويمارس عمله بسلاسة، كما يؤكد زملاؤه الصيادون. أكمل القراءة "ربنا بيقسّم الأزراق" حسين محمود، أحد صيادي ميامي، يوضح أن أغلب الصيادين يمارسون "التقليب"، بحكم قربهم من البحر، وبجانب عملهم الأساسي كصيادين، إلا أن هناك أشخاصاً لا يعملون سوى بـ"التجليش" ويُسمون "غطاسين"، وهم مسنون وبلا عمل، وصيادون قدامى، لذا يلجؤون للبحر من أجل "لُقمة عيش"، ويبحثون عن ذهب أو فضة وأموال. "ربنا بيقسّم الأرزاق وكل واحد له رزقه"، يقول محمود. وهناك أوقات معينة تنشط فيها هذه المهنة وهي بعد "النوّة"، فضلاً عن موسم الصيف والسياحة وكثرة ارتياد المُصطافين من محافظات وبلدان عدة للشواطئ، فالكثير يضع في "أحد جيوبه" أموالاً ورقيةً وفيرةً، ومع المرح ينسى الشخص فينزل بها البحر لتسقط وتتجمد في الرمال، ثمّ تعود للظهور مع الأمواج، فينزل الغطاسون والصيادون بحثاً عن المفقودات. أحياناً تهب رياح قوية تحرّك البحر والرمال، فتظهر أموال ومعادن وذهب، دون تنبيش، يلفت محمود، وبسؤاله "هل يأتي أحد ليسأل عن شيء ضائع منه؟"، أجاب أن أحداً ضاع منه شيء وانتبه في نفس اليوم، يمكن أن يأتي ليسأل الغطاسين أو الصيادين، وأحياناً يتطوع البعض للبحث عن الشيء المفقود، مقابل الحصول على "إكرامية"، إلا أنه على الأغلب تُفقد الأشياء وتُنسى، فتصبح ملكاً لمن يجدها.التخصص في قطع البلاستيك البعض يعمل في مهنة التقليب أيضاً، ولكنه يبحث تحديداً عن القطع البلاستيكية التي تقع من صنارات الصيادين، والفرق هنا هو الاعتماد بشكل كلي على الغطس فقط، كـ"كريم"، الذي يرتدي بدلة الغطس وباقي المستلزمات، ويعتمد على شبكة صيد في البحث عن القطعة الأخيرة المُثبتة في الصنارات والمُستخدمة في تثبيت الطُعوم والتي تسقط بشكل مستمر مع الاستخدام والصيد. يقوم كريم بجمعها ثمّ غليّها بماء نار وإعادة تشكيلها مرة أخرى في هيئة ميداليات بلاستيكية، ثمّ بيعها لأحد محلات الخردوات، ويقول إن هذه المهنة مصدر معيشته، وهي بالطبع لا تكفي لسد احتياجات أسرته المكوّنة من طفليه وزوجته، لذا فهو في كل مرة يأمل أن يجد قطعة ذهبية أو معدنية ثمينة تكفي لسد احتياجاته."لا يُرّد شيءٌ لصاحبه" بسؤال مجموعة من روّاد المدينة الساحلية، وعدد من ساكنيها، هل يلجؤون إلى أصحاب مهنة "التجليش" لمساعدتهم في العثور على متعلقات ضائعة منهم، أجاب جميعهم بالنفي، فبعضهم مقتنع بأنه حتى وإن وجد أحد شيئاً ثميناً فلن يرده لصاحبه، وبعضهم أجاب : "محدش بيسأل عن حاجة ضايعة منه، بيستعوض ربنا وخلاص"، ومنهم من يقول إن هذه مهنتهم ويتعبون كثيراً في البحث والتفتيش، لذا لن يمنحوا أحداً شيئاً وجدوه بعد تعب. اقرأ أيضاًكنز لبنان المدفون: أين اختفت صناديق الـ400 كلغ من الذهب الخالص؟عن "لقمة العيش" التي تأتي من آخر مكان تتوقعونه... الصرف الصحيلصوص في قعر البحر يبحثون عن ملايين الدولارات بين الشعاب المرجانية كلمات مفتاحية البحر ذهب مفقود التعليقات
مشاركة :