معرض يؤرخ لألفي سنة من التاريخ المسيحي في الشرقبهدف التأكيد على أهمية حماية التراث المسيحي الشرقي الثريّ، وبشكل خاص في ظل الأحداث الصعبة والدامية التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط في السنوات الأخيرة، يواصل معهد العالم العربي في باريس، استقبال المئات من الزوار الفرنسيين والأوروبيين والعرب في معرض يتناول تاريخ المسيحيين في الشرق الأوسط على مدى ألفي عام، أي منذ ولادة المسيحية مرورا بالفتح الإسلامي وعصر النهضة، في حوار غني مرئي بين الماضي والحاضر والمستقبل.العرب عبدالناصر نهار [نُشر في 2017/12/09، العدد: 10837، ص(20)]كنوز الكنائس العربية باريس - يكشف المعرض الفرنسي الذي تمّ افتتاحه أواخر سبتمبر الماضي ويتواصل حتى 14 يناير المقبل، بمعهد العالم العربي في العاصمة الفرنسية باريس تحت عنوان “مسيحيو الشرق.. تاريخ يمتد على أكثر من ألفي عام”، أنّ كنائس الشرق قد احتفظت بخصوصيات طقوسها الدينية بعد ظهور الإسلام، ويضم المعرض روائع من الفن الإسلامي أنجزت بأسلوب حرفي مسيحي، تؤكد على العلاقات الفنية الوثيقة التي تميّزت بين المسلمين والمسيحيين آنذاك. ويسعى المعرض الباريسي، من ضمن أهدافه كذلك، إلى إبراز التفاعل الثقافي القديم بين المسلمين والمسيحيين، من خلال المعروضات المختلفة، ومنها زجاجة مزيّنة بمشاهد من الحياة في الأديرة على الطريقة الإسلامية، تعود إلى القرن الثالث عشر في سوريا. ويروي المعرض كيف توجهت أوروبا تدريجيا نحو المسيحيين في العالم العربي لتعليم اللغة العربية، وذلك منذ بداية القرن الخامس عشر، حيث تمّ توجيه الدعوة حينها إلى مسيحيين عرب لتعليم اللغة العربية في الكليات الرئيسية التابعة للقصور الملكية الأوروبية، كما يكشف المعرض للزوار عن الدور البارز والناجح الذي قام به المسيحيون الشرقيون كوسطاء ثقافيين بين الشرق والغرب، وذلك من خلال التدريس والترجمة، وعبر التجارة بين بلاد الشام وأوروبا أيضا. والمعرض يُنظم بتعاون وثيق مع ممثلي مختلف الطوائف المسيحية، حيث يعرض قطعا أثرية أساسية من التراث المسيحي الشرقي، ويتيح الفرصة لفهم المكانة التي يشغلها الدين المسيحي في الشرق، وكذلك التنوع الكبير في الأشكال التي اتخذها، مما تجلى في تعددية الكنائس والقديسين والممارسات الطقسية والتقاليد والأماكن. وتقول سارة غولين، وهي زائرة فرنسية “المعرض هام جدا بالنسبة لنا كأوروبيين، حيث أنّ تفاصيل المسيحية الشرقية ما زالت مجهولة أو غير معروفة لدى الغرب بالشكل الأمثل”. فيما يؤكد باسكال غولنيتش ممثل الجهة المنظمة، أنّ المسيحيين في الشرق ليسوا كما يتم تصويرهم أولئك المضطهدين، أو المهاجرين الذين يلقون الحماية من الغرب وحسب، بل إنّ المسيحية في الشرق هي مكوّن حضاري هام في العالم العربي. ولا بدّ من التذكير دوما بأنّ المسيحية ظهرت في الشرق، في القدس، ثم انطلقت منها إلى العالم. ومن جانبه شدّد فريدريك غازين، وهو أيضا زائر فرنسي، على أهمية المعرض في إبراز الثراء الديني والحضاري لمنطقة الشرق الأوسط، وخاصة في هذه الظروف التي أساءت للعالم الإسلامي، حيث أنّ التفاعل والتعايش بين مختلف الأديان ممكن في كل زمان ومكان.حوار غني بين الماضي والحاضر والمستقبل كما أعربت شيماء ريملي، مُقيمة عربية بباريس، من جهتها عن سعادتها بتنظيم هكذا معارض، مُبدية تحفظها لاقتصار تاريخ المعرض على الشرق العربي بشكل خاص، وإن كانت ترى أنّ حجم الطوائف المسيحية في دول عربية أخرى صغير نسبيا. ويتطرّق المعرض لثقافة المجتمعات المسيحية في كلّ من مصر والأردن والعراق ولبنان وسوريا والأراضي المقدسة، وينتهي مساره بالتعرّف على حيوية الكنائس في الوقت الراهن برغم التغيّرات السياسية التي عاشها العالم العربي في الفترة الأخيرة، ويدعو إلى ضرورة حماية هذا التراث المسيحي الشرقي الغني. ويبرز المعرض أيضا، وبشكل واضح، أهمية ترجمة ونقل النصوص المسيحية الرئيسة، وذلك من خلال إطلاع الزوار على مخطوطات باللغات اليونانية والسريانية والقبطية والعربية، مكتوبة في الفترة ما بين القرن الخامس والرابع عشر في سوريا والعراق ومصر. ويحتوي المعرض على قطع أثرية توضح ثراء الكنائس في العالم العربي مثل قطع فسيفساء من الكنائس الأولى في فلسطين والأردن وسوريا، ورسوم وجوه الرهبان الأقباط من دير مصري في باويط، ومسلات وتذكارات من الحج مع صور القديس مينا والقديس سمعان والقديسة تقلا، وكؤوس وأطباق فضية من كنوز الكنائس السورية، كما يضم بعض الأناجيل الأولى المطبوعة في قزحيا وروما وباريس، والأردية المصنوعة في ورش نسيج حلب، وأيقونات من مدرسة القدس، وصحفا تعود إلى عصر النهضة مطبوعة في مصر أو لبنان، والتي تشهد كلها على الزخم الثقافي والحرفي الذي كان يعيشه مسيحيو العالم العربي بين القرنين الخامس عشر والتاسع عشر. وكذلك الكثير من القطع الأثرية المتميزة التي تلقي الضوء على المحيط الثقافي والسياسي الذي ولدت فيه المسيحية، وتذكر بالأسس التاريخية والممارسات المعاصرة. ومع اختتام مسار المعرض، يطلع الزائر على حيوية وتفاعل الكنائس اليوم مع الناس، وذلك بالرغم من كل ما مرّ به العالم العربي مؤخرا، فهناك الموشحات الدينية التي تتوجه إلى مريم العذراء في شوارع المدن اللبنانية، بجانب مظاهر إحياء حياة الرهبنة المصرية، وتقاسم الأماكن المُقدّسة بين المسيحيين والمسلمين. ولعلّ الدور الثقافي المطلوب، وفقا لأحد الزائرين العرب لمعهد العالم العربي في باريس، ليس فقط إظهار أهمية التفاعل والتحاور بين الإسلام والمسيحية بين الماضي والحاضر، بل يجب على المعنيين بالشأن الثقافي العربي سواء في الدول العربية أو المهجر، وخصوصا في فرنسا حيث الجالية المُسلمة الأكبر في أوروبا، تحريك المشهد الثقافي، وتنظيم الفعاليات التي تُعزّز من التسامح الديني بشكل عام، وإظهار أنّ تعدّد الطوائف في الدين الواحد هو غنى ومكسب حضاري للمنطقة العربية وللإنسانية بشكل عام.
مشاركة :