ارتفع صراخه فجأة بصورة غريبة، فأتت إليه ابنته مسرعة ومرتبكة، وهي تظن أن هناك كارثة ألمّت بأبيها، إلا أنها فوجئت بأن الأمر لا يعدو سوى جرح بسيط أصابه من سكين المطبخ، لم ينتبه إليه وهو يستخدمه، وعندما قالت لأبيها إنه مجرد جرح بسيط وإن انفعاله مبالغ فيه، صرخ في وجهها واصفاً إياها بعدم المبالاة، وظل بعدها 10 أيام يتحدث ويتوهم عن تلوث يمكن أن يصاب به في الدم، ويتملكه شعوره بالدوخة والغثيان، ويتخوف من أنه يمكن أن يكون أصيب بمرض خطر تمكن منه من هذه الجرح البسيط.وهذه ليست أول مرة يفعل فيها الأب ذلك، فمع كل حادث بسيط يظل يكرر هذه السلوكيات، ويخضع لبعض التخوفات والوهم من أمراض وأخطار تحدق به من كل اتجاه، وهذه الحالة التي يكون عليها الأب من شكوى دائمة من أمراض وعلل يتوهم أنها تصيب معظم أعضاء جسده، هي في الواقع حالة إصابة بمرض نفسي يسمى التوهم المرضي. اضطراب نفسي جسدي يُعَرِّف الأطباء مشكلة التوهم المرضي بأنه اضطراب نفسي عصبي مزمن، يعمق لدى الشخص إحساساً بأنه مريض جسدياً وتظهر عليه بعض الأعراض البدنية، ويتسم بالقلق والمبالغة في تصور علة ومشاكل جسدية معينة، ونتيجة التفكير المستمر للشخص الذي يعاني من هذه في أنه سيصاب بالمرض، أو الخوف من مهاجمة الأمراض له في أي وقت، يبدأ في الإحساس بأنه مصاب بمرض عضوي حتى ولو أثبتت الفحوصات الطبية سلامته، فمثلاً يشعر هذا المريض بالخمول والصداع والتعب، وهي أعراض تتشابه إلى حد كبير مع الإصابة بأحد الأمراض الحقيقية، ولذلك يظن هذا الشخص أنه مصاب فعلاً بمرض عضوي، ويعيش في نطاق هذا الوهم، ويبدأ في تضخيم الإحساس العادي بالتعب والألم، كما يتأثر هؤلاء المصابون بمشكلة التوهم المرضي أكثر بما تقدمه أجهزة الإعلام، حيث تزيد عندهم من حدة القلق، ولا تقتصر الإصابة بمرض التوهم المرضي على الكبار فقط بل يمكن أن يصاب به الأطفال أيضاً، فيمكن أن تجد طفلاً يتوهم دائماً بأنه مريض، ويدعي شعوره بوجود ألم في بطنه أو رأسه أو قدمه، وربما يخبر أبويه بأنه يشعر بمرض خطر، وعندما يلجأ الأبوان لإجراء فحوص كاملة للطفل لا يظهر عليه أي عارض صحي، والمصاب بمشكلة التوهم المرضي يتحول إلى شخص مزعج وغير مقبول في محيطه وفي المجتمع بأسره، حيث يصبح هذا الشخص في حالة شكوى دائمة من المرض ويتحول إلى شخصية ثقيلة تبعث على السأم، وتجعل بعض المحيطين به يهربون من التواصل معه خشية أن يصابوا هم أيضاً بالوهم، ويفرق الأطباء بين مرضى الوسواس والوهم، فمرض الوهم يتخيل فيه الشخص أنه مصاب بمرض ما لكنه واهم في ذلك، وليس هناك صحة في ذلك، وهنا يتوهم المرض، أما الوسواس فهو يعتبر فكرة غير منطقية تلح على الإنسان ويعلم بأنها غير منطقية وغير مناسبة، ثم يحاول أن يتخلص منها لكنه غير قادر على ذلك. الثقافة والحساسية الزائدة ينتج مرض التوهم المرضي عن حدوث عدد من التغيرات الكيميائية في جسم ودماغ الشخص المريض، نتيجة بعض الجينات المسؤولة عن هذا النوع من الاضطرابات، والتوهم المرضي له تأثير بثقافة الفرد الاجتماعية والتعليمية، حيث تلعب الخبرات الطفولية دوراً مهماً في الإصابة به، فعندما يلاحظ الأبناء الاهتمام الشديد من قبل الوالدين بصحتهم، يجعل هذا الأمر يترسخ في العقل الباطن للمريض، أيضاً الحساسية الزائدة لدى بعض الأشخاص التي تجعلهم يتوهمون المرض بمجرد السماع عنه من الأطباء، أو من وسائل الإعلام والمجلات الطبية وهي ما يصنفها الأطباء النفسيون بالقراءات غير الواعية وغير العلمية، وتكون مشكلة التوهم المرضي هروباً من الحياة وعدم تحمل المسؤولية، بما يسميه فرويد الحل الثانوي غير الناجح، فتجد المريض يشعر بالفشل والإحباط والعجز في علاقته الأسرية والاجتماعية والعملية، كما أنه يشعر بالنقص وعدم الثقة والكفاءة، وتتميز شخصية المصاب بمشكلة التوهم المرضي بشعوره الدائم بالقلق النفسي والعدوان المكبوت، كما أنه يبالغ بالاهتمام الزائد بأعضاء الجسم، وهي من أهم الأسباب المؤدية للمرض، فتجده يراقب أعضاء جسمه بشكل مبالغ فيه، ويضخم من كل تغير يحدث بشكل كارثي، كما أن المرض يحدث كنوع من الدفاع عن الذات للتعويض، وكبار السن يتعرضون للإصابة بهذا المرض عندما يفتقدون إلى الحب والاهتمام من قبل المحيطين بهم، فتكون مشكلة التوهم المرضي وسيلتهم الفعالة لجذب الانتباه والأنظار وزيادة الاهتمام. معاناة مستمرة يعاني الشخص المصاب بمشكلة التوهم المرضي من عدم الراحة المستمرة مع تضخم الإحساس بالتعب والألم، والانشغال الدائم بالجسم والصحة وكثرة التردد على الأطباء، وكثرة زيارة الأطباء دليل على الشعور الدائم بالمرض أو بأن هناك مرضاً خطيراً، والمبالغة في الأعراض البسيطة مع التركيز على صغائر الأعراض المرضية وتشخيص المرض لنفسه، كذلك فإن مصاب التوهم المرضي دائم الشكوى من الاضطرابات في المعدة والأمعاء والرأس والقلب، ويميل المريض إلى تعميم المشاكل الجسمية الشاذة المرتبطة بتوهم مرض معين، ويميل إلى الشكوى المستمرة من الأوجاع والآلام الغامضة، ويشعر بأن الجسم في حالة معاناة دائمة يمكن أن يؤدي ذلك لحالة من عدم الانسجام مع العالم المحيط به، ويتوهم المصاب بالتوهم المرضي بكل ما يقرأ أو يشاهد، ويشعر بالسرور حين يقترب من الآخرين الذين يبدون تعاطفاً واهتماماً بأعراضه الجسمية، مما يؤدي إلى إشباع الحاجات الاتكالية والتخلص من المسؤوليات، وبالتالي تعزيز تلك الأعراض واستمرارها، ولا يتقبل هذا المريض بسهولة فكرة الذهاب إلى مراجعة الطبيب النفسي أو الأخصائي النفسى المتخصص، بالعكس هو يصر على أن سبب علته مرض عضوي وليس نفسياً، كما أن المريض يصاب بعدم التركيز الذهني وضعف الذاكرة، نتيجة للوساوس والهواجس التي تنتابه حول صحته، أضف إلى ذلك الأرق وقلة النوم نتيجة للانشغال بتلك الهواجس المتعلقة بصحته. زيارة الطبيب النفسي يبدأ علاج المصاب بمشكلة التوهم المرضي بزيارة طبيب الأمراض النفسية لطلب بعض النصائح والإرشادات، ويكشف له ما يعانيه من صراعات داخلية، مع إعطائه بعض الأدوية المهدئة التي تساعده على الخروج من هذه الحالة، ولا بد أن تقوم الأسرة بمراقبة هذا المريض بشكل مستمر، حتى لا يقدم على الانتحار إذا ما تحول معه الأمر إلى حالة اكتئاب، وتوجد أدوية معينة مضادة للاكتئاب تساعد على التخلص أو التخفيف من أعراض المرض، المتمثلة في الخوف من الأمراض الجسدية والقلق والتفكير السلبي الدائم، ويعتبر العلاج المعرفي السلوكي وهو أحد أشكال العلاج النفسي أكثر فعالية، حيث يساعد المريض على فهم وإدراك ما لديه من اعتقادات خاطئة مسببة لمخاوفه، كما أنه يساعد على تعليم المصاب كيفية إيقاف سلوكياته المرتبطة بهذا المرض، والتي تتضمن تكرار تفقد الجسد ومراقبته، وكذلك على المريض الاستفادة من الوقت بصورة صحيحة مثل التركيز على الدراسة وممارسة الرياضة، والتواصل الاجتماعي ومشاهدة البرامج المفيدة، وأيضاً قراءة الكتب، فالإنسان حين يزود نفسه بالثقافة العامة وبالعلم يستفيد أكثر في حياته ويصبح مطمئناً، كما يمثل الانخراط في الأعمال الخيرية والثقافية طريقة علاجية لها مردود إيجابي كبير للغاية على الصحة النفسية للإنسان، وعلى الآباء والأمهات التخفيف من درجة الاهتمام الزائد على الحد بالأطفال، لأنه غالباً ما يؤدي إلى إنتاج أطفال غير أصحاء نفسياً، ولا بد من الإرشاد العلاجي للمريض ومعرفة دور الأسرة في العلاج، مع عدم المبالغة فيما يعانيه هذا الشخص ويحتاج الأمر إلى العطف والرعاية فقط. النساء الأكثر إصابة تشير دراسة حديثة إلى أن نسبة الأشخاص الذين يصابون بمشكلة التوهم المرضي لا تقل عن 2.5 % على مستوى العالم، وهذه النسبة كبيرة ومقلقة ويجب العمل على تخفيضها، وكشف الباحثون في هذه الدراسة أن ما يزيد على 7% من هؤلاء الأشخاص الذين يعانون مشكلة التوهم المرضي يشعرون به، وغالباً ما يكون لديهم شرح مفصل عن معتقداتهم وآلامهم التي يتوهمون بها، فيشكون من آلام في الصدر أو الصداع ومع ذلك عندما يخضعون لفحص الطبيب لا يجد أي أمراض لديهم رغم شكواهم المتكررة، وتوضح دراسة أخرى أنه لا يوجد عمر محدد للإصابة بهذه الحالة المرضية النفسية، ولكن هناك أدلة على أنها تتركز في الأشخاص الذين تجاوز عمرهم سن 50 عاماً، ويفسرون ذلك بحاجة هؤلاء إلى الاهتمام والرعاية، وكشفت هذه الدراسة أن السيدات هن الأكثر معاناة من هذا المرض مقارنة بالرجال، نتيجة ترسخ اعتقاد لديهن بأنهم دخلن نحو مرحلة الشيخوخة، وتسرب لديهن شعور بأنهن ليسن محط أنظار ولا اهتمام الآخرين، وانتقل هذا الاهتمام إلى من أصغر منهن في السن.
مشاركة :