تعد الهوية الوطنية من أكثر القضايا الشائكة التي تواجه المجتمعات من حيث المحددات وأشكالها، وأبعادها الثقافية، وما يميز المثقف دون غيره في تعاطيه مع كل ما يتعلق بجسد الوطن وحمل تبعاته، هي نظرته العميقة لمعنى المسؤولية التي تجعله يقوم بعمليات تفكيكية لمكونات الوطن علاوة على التحليل والتدقيق لكل ذلك، حتى يصل إلى هوية صحيحة عميقة تمثل الوطن من خلال التحقيق التالي نحاول معرفة دور الخطاب الثقافي السعودي ودوره في تشكيل الهوية الوطنية فيقول الشاعر محمد عابس ان الخطاب الثقافي عبر إفرازاته وأنماطه أو أشكاله المختلفة هو محصلة العلاقة السوية بين الإنسان والوطن فكلما نما هذا الخطاب واتسعت دوائره وتعددت منابره وتفرعت أشكاله بين الفردية والجماعية ونجحت مؤسساته المدنية كان ذلك أكبر المؤثرات في الإحساس بأهمية الهوية وقيمتها وارتباطها بالوطن، فهو يرى أن من أكبر الأخطاء استخدام الأساليب المباشرة أو التلقينية أو الوعظية في الخطاب الثقافي وموضحا ان الخطاب الثقافي تشترك في صياغته جهات متعددة ومختلفة كل منها يسهم في التعاطي مع الثقافة حسب رؤيته وفهمه فينجح بعضها ويفشل الآخر مشيرا إلى أهمية التعاطي مع الوطن وفق الأساليب الفنية المختلفة من شعر وسرد ودراما وموسيقى وغناء وتراث متنوع الأشكال وغيرها للوصول إلى المتلقي بسلاسة وجمال ورقي فني وموضوعي وقدرة على التفاعل والاستيعاب والحب لتشكيل هوية الوطن لدى أبنائه وبناته ويعكس صورة مثالية للمقيم والزائر والمتابع. ومضيفا أن الشاعر والكاتب والفنان والمبدع أبناء الوطن وهم يلونون صور الوطن بجميع أشكالها إيجابا وسلبا يسعون للوصول إلى الوطن الأجمل والأفضل في كل المجالات. ويحاول الكاتب والروائي محمد المزيني الابتعاد عن إطارات التمجيد العفوي والتلقائي الشعبوي المسكون بالحب والمعبر عن مدى ما يكنه المواطن من مشاعر فطرية لوطنه، إلى دور المثقف المتماهي مع الوطن بطريقة مختلفة، وإن كانت نوازعها ذات المشاعر الفطرية كما يقول المزيني، الا أنها تتميز او يجب ان تتميز بعمق يحمل معنى المسؤولية، هذه المسؤولية التي تجعل المثقف يقوم بعملية تفكيكية لمكونات الوطن التي تحمل داخلها ثقل الهوية فهو بعينه الثاقبة السابرة لأغوار الأشياء يقوم بعملية تحليل دقيق لكل ما التصق بجسد الوطن وحمل تبعاته، ولكي يصل الى هوية صحيحة وحقيقية وعميقة للوطن فإن المثقف لن يخضع لتوجيهات او توجهات خارج نطاق العقل، فالعقل عنده هو الميزان الحقيقي والمعيار في تشكيل الهوية، ويقول المزيني إذا اعتبرنا ان الهوية الوطنية المشمولة بقيم الدين والعادات والتقاليد والأخلاق الإنسانية الفطرية فإن المثقف لن يسلم نهائيا بكل ما اقتحم هذه الهوية من ملوثات نسبت جهلا او بطريقة مغرضة إلى هذه الايقونات الثلاث، وبهذه الطريقة التحليلية والتفكيكية الواعية يمكن لنا صياغة هوية وطنية معبر عنها بشكل، مما سيقينا من مغبة توريط وطننا بتأويلات جاهلة تخلو من الفكر الثاقب الرصين المؤسس وفق معارف وعلوم حقيقية، لذلك وإزاء ما لحق بوطننا من تجاوزات وتعديات غير مسؤولة القى بعبئه وتبعاته على الهوية الوطنية، يجب ان يكون للخطاب السعودي وقفته المعبرة في تشكيل هذه الهوية، لا ان ينجر وراء الأصوات المنغمة مجانا على الحس الوطني، بمثل ما تعبأت به صحفنا السعودية هذه الأيام (للأسف) من مكرور القول لأسماء تحسب على الثقافة وعلى مؤسساتها من اجل تسجيل الحضور فقط، وهذا بحسب المزيني لا يعدو ان يكون وهماً أو ايهاما لمعنى الوطن الحقيقي بهويته التي ننتظر أن تشكل وفق كما قلت نظرة واقعية وثاقبة حتى نخرج به عما ابتلي به. أما الباحث الدكتور زيد الفضيل فيقول تشكل الهوية الوطنية، التي تمثل العمود الفقري في خندق التحصين والتحديث في وقت واحد، من أكثر القضايا الثقافية الشائكة التي تواجهها كثير من الدول، وذلك من حيث طبيعة محدداتها، وطبيعة أشكالها، وأبعادها الثقافية، خاصة مع تنوع الأعراق، واختلاف الأديان، وتعدد اللغات، مبينا على أن الأمر مختلف جدا ضمن محيطنا الوطني، فلا تعدد في الأعراق، حيث ينتمي كل أبناء المملكة لأرومة عربية واحدة، ولا تغاير أو تباين في اللغات واللهجات، حيث يتحدث كل سكان المملكة بلسان عربي مبين، ناهيك عن وحدة الدين الإسلامي، وبالتالي فهو يرى محددات وطبيعة وأبعاد الهوية الوطنية من حيث بعدها الاجتماعي والثقافي تكاد تكون واحدة عند جميع سكان المملكة من البحر شرقا إلى البحر غربا، ومن السهل شمالا إلى الجبل جنوبا، الأمر الذي سهل من عملية الاندماج الوطني القائم منذ إنشاء المملكة العربية السعودية على يد القائد الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه، وبالتالي يقول فلا غرابة أن نرى هذا التواشج والتمازج القائم اليوم بين مختلف مكونات الوطن وأبنائه، لكونهم ينطلقون من ثقافة واحدة وإن اختلفت مناطقهم، ويتكئون على تراث واحد وإن اختلفت عاداتهم وبعض تقاليدهم. وهو ما يجب تعزيزه ضمن إطارات الخطاب الثقافي بوجه عام، لزيادة توثيق صلاته بين مختلف الأجيال الصاعدة. متصورا أن الخطاب الثقافي السعودي خلال المرحلة السالفة قد أدى دوره في تعزيز اللحمة الوطنية، وساهم في توثيق عرى المحبة للوطن بين مختلف الأجيال، ولا أظن أن أحدا يمكنه أن ينسى تلك الترانيم الوطنية التي شدا بها الصغار قبل الكبار، رافعين حناجرهم يرددون رائعة الدكتور غازي القصيبي يرحمه الله " أجل نحن الحجاز ونحن نجد" ، كما لا يتصور أن أجيالنا المتتابعة قد غاب عنها صوت المبدع محمد عبده وهو يرفع صوته مجلجلا بفوق هام السحب، ناهيك عن دور عديد من المهرجانات الثقافية، التي يأتي على رأسها مهرجان الجنادرية للتراث والثقافة وما ارتبط في ذاكرتنا من أوبريتات وطنية خلابة، إلى غير ذلك من القصائد والكتابات، التي كان لها أكبر الأثر في تعزيز قيمة الهوية الوطنية، والمساهمة في توثيق عرى الترابط الوطني، تحت ظل قيادة سياسية واحدة متفق عليها إجماعا شمالا وجنوبا، شرقا وغربا.
مشاركة :