إيران لم تكتف بتأسيس وتدريب الميليشيات الطائفية وإنما سعت إلى الترويج لنموذجها لدى بعض دول الجوار.العرب [نُشر في 2017/12/10، العدد: 10838، ص(4)]طهران توجه أذرعها لتكون مصدر صداع مزمن في المنطقة واشنطن - يكتسب السؤال عن مستقبل الميليشيات الطائفية التي قامت إيران بتكوينها وتدريبها داخل دول الأزمات أهمية حاليا، بعد انتهاء مفعول المبرر الذي استندت إليه في تأسيس تلك الميليشيات، والإعلان عن هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا. تبرر إيران دائما قيامها بدعم تلك الميليشيات في إطار سعيها إلى محاربة التنظيم داخل مناطق نفوذه قبل أن يصل إلى طهران، دون أن تتمكن في المقابل من تفسير أسباب عزوف التنظيم عن تهديدها بالفعل، رغم تواجده في الدول المحيطة بها، وهو ما يضفي وجاهة على الترجيحات التي تشير إلى توصل الطرفين إلى هدنة ضمنية طويلة الأجل، على نحو ما حدث مع تنظيم القاعدة من قبل. هنا، بدأت إيران في توجيه إشارات تعكس رؤيتها إلى مستقبل الدور الذي سوف تقوم به هذه الميليشيات في المرحلة القادمة، وحسب ورقة تحليل السياسات التي أعدها فرزين نديمي، محلل متخصص في الشؤون الأمنية والدفاعية المتعلقة بإيران ومنطقة الخليج في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، بعنوان “إيران تضاعف رهانها على الميليشيات الأجنبية بعد انتصارها على تنظيم الدولة الإسلامية”، دعا المرشد الأعلى علي خامنئي “قوات المجاهدين” إلى الحفاظ على استعدادها لمواجهة التحديات المستقبلية. ورغم أن الدراسة تنطلق من فرضية تواجه إشكالية رئيسية وتتعلق بدور إيران في الانتصار على تنظيم داعش، خاصة أن نفوذ إيران داخل دول الجوار كان أحد أسباب انتشار الأخير، إلا أنها تحظى بزخم خاص في ضوء محاولاتها الإجابة على السؤال السابق عن تصورات إيران للأدوار المستقبلية التي قد تقوم بها الميليشيات التابعة لها. ووفقا لتحليل نديمي، اتجه القادة العسكريون الإيرانيون إلى تحديد المهام المستقبلية التي سوف تقوم بها تلك الميليشيات، على غرار تكوين نموذج للتعبئة الشيعية الدولية تحت قيادة قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري قاسم سليماني وتهديد مصالح القوى المعادية لإيران، مثل إسرائيل والولايات المتحدة، إلى جانب بعض دول الجوار وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية. وانعكس ذلك في تصريحات قائد الحرس الثوري محمد علي جعفري، في 26 نوفمبر الماضي، التي كشف فيها عن “نقل خبرة تلك الميليشيات إلى اليمنيين”، في إشارة إلى جماعة أنصار الله (الحوثيين). وتطرح هذه التصورات دلالتين أساسيتين: الأولى أن الهدف الأساسي من تكوين هذه الميليشيات من البداية لم ينحصر في ادعاء مواجهة داعش، وإنما دعم جهود إيران لتكريس نفوذها في المناطق التي تتواجد بها تلك الميليشيات، على غرار أفغانستان والعراق وسوريا واليمن، أو بمعنى أدق تكوين أحزاب الله جديدة تستطيع الدفاع عن مصالح ونفوذ إيران في تلك الدول. قوات باسيج العالم الإسلامي تعمل بإمرة إيرانية ولكن تركيبتها أصبحت تضم جنسيات متعددة لذلك بوسع أي منظمة تابعة لها أن تدعم مصالح إيران في كل من أفغانستان وسوريا واليمن وغيرها من الدول ذات الأهمية الاستراتيجية، حتى من دون وجود كبير لإيران على الأرض وبدا ذلك واضحا في تصريحات قائد الحرس الثوري محمد علي جعفري، في 26 نوفمبر الماضي، التي كشف فيها عن “نقل خبرة تلك الميليشيات إلى اليمنيين”، وأيضا قوله إن “الباسيج تشكل نموذجا للمقاومة من قبل شعوب المنطقة على غرار حزب الله في لبنان والحشد الشعبي في العراق”. والثانية أن الميليشيات المسلحة هي الآلية الرئيسية التي تستخدمها إيران في دعم دورها في المنطقة، ليس فقط بسبب تبنيها لسياسة الحرب بالوكالة التي تقوم في الأساس على تجنب الدخول في مواجهة مباشرة، وهو ما لم تعتد عليه إيران منذ انتهاء الحرب مع العراق عام 1988، وإنما أيضا بسبب شكوكها الدائمة في ولاء القوات النظامية. ويعود ذلك، في قسم منه، إلى عزوف إيران منذ بداية الثورة عن التعويل على دور المؤسسة العسكرية التقليدية بسبب موقفها المتردد من الثورة قبل إعلان تأييدها، واتجاهها إلى تأسيس الحرس الثوري ليكون مؤسسة أيديولوجية موازية تابعة لقيادة الثورة وقادرة على حمايتها حتى من الجيش النظامي. وفقا لتحليل المعهد البحثي الأميركي فإن كتيبة “فاتحين”، التي لم يلق الضوء عليها بشكل كبير خلال المرحلة الماضية، تعتبر ميليشيا إيرانية متعددة المهام ونموذجا للميليشيات التي تسعى إيران للاعتماد عليها في تعزيز نفوذها بالمنطقة. وتأسست هذه الوحدة الخاصة التابعة لفيلق “محمد رسول الله” في الحرس الثوري، في البداية، من أجل قمع الاحتجاجات التي شهدتها إيران في منتصف عام 2009 اعتراضا على نتائج الانتخابات الرئاسية التي أسفرت عن فوز الرئيس السابق أحمدي نجاد بفترة رئاسية ثانية. ويبدو أن دورها في التعامل مع تلك الاحتجاجات دفع النظام الإيراني إلى تحديد مهام عابرة للحدود لها تشمل مقاتلة المشاة في سوريا وتدريب الميليشيات الأجنبية، وفي مقدمتها “لواء زينبيون” الذي يتكون من شيعة باكستانيين، و”لواء فاطميين” الذي يضم شيعة أفغانا. ترويج النموذج اللافت للانتباه أن إيران لم تكتف بتأسيس وتدريب تلك الميليشيات وإنما سعت إلى الترويج لنموذجها لدى بعض دول الجوار، مثل باكستان، على نحو ما حدث خلال لقاء قائد “الباسدران” محمد علي جعفري مع قائد الجيش الباكستاني الجنرال قمر جاويد باجوا، الذي زار طهران في 7 نوفمبر الماضي. اقترح جعفري تكوين قوات باسيج باكستانية لتكون مؤسسة موازية للجيش النظامي الباكستاني، مبديا استعداد إيران للمساهمة في تدريب تلك الميليشيات ونقل خبرتها إليها، مشيرا إلى “النجاحات المزعومة” لتلك النماذج في العراق وسوريا. وهنا، فإن إيران، حسب فرزين نديمي، قد تلجأ إلى الضغط من أجل إضفاء طابع رسمي باكستاني على “لواء زينبيون” الذي يقاتل في سوريا ويتوقع أن يعود عناصره إلى باكستان في مرحلة لاحقة. وتتصدر أفغانستان قائمة الدول التي تسعى إيران إلى دعم نفوذها فيها من خلال تلك الميليشيات، ويعود ذلك إلى اعتبارات عديدة، يتمثل أبرزها في روابطها العائلية والأيديولوجية مع بعض المكونات الاجتماعية الأفغانية مثل الهزارة الشيعة، إلى جانب حالة عدم الاستقرار التي تمر بها أفغانستان، بسبب عدم قدرة القوات النظامية على مواجهة تصاعد نشاط حركة طالبان وتنظيم داعش، وهي الحالة التي تسعى إيران لاستغلالها باستمرار من أجل دعم نفوذها. يضاف إلى ذلك حرص إيران على عدم تكرار تجربتها في التسعينات عندما لم تتمكن من السيطرة على الأحزاب الشيعية ومنافسيها من الحرس الثوري وميليشيات نصر، بشكل سيدفعها على الأرجح، إلى محاولة تكوين نموذج جديد لحزب الله أو حشد شعبي أفغاني مدعوم بخبرات من عناصر سبق أن قاتلت في سوريا إلى جانب النظام السوري. وقد تسعى إيران إلى حث أفغانستان على إضفاء طابع رسمي على نشاط “لواء فاطميين” ليكون أشبه بميليشيا الحشد الشعبي العراقية، وربما تتمكن هذه الميليشيا من الحلول محل القوات النظامية تدريجيا من خلال تولي مهامها الرئيسية لتكرر نفس السياسة التي اتبعها حزب الله، بشكل يمكن أن يساهم في توسيع نطاق نفوذها خاصة بعد انسحاب قوات الناتو. وبالطبع، فإن قيام تلك الميليشيات بأدوار بارزة على الصعيد الاجتماعي لا سيما داخل أوساط الهزارة الشيعة يمكن أن يعزز من نفوذها في الداخل، ويساعد إيران بالتالي في تكرار تجربتها في كل من العراق وسوريا.باسيج العالم الإسلامي خلفا لتنظيم داعش تعميق النفوذ على المنوال نفسه، قد تلجأ إيران إلى الضغط على النظام السوري من أجل منح ميليشيا “الدفاع الوطني” التي كونتها إيران في بداية الصراع، طابعا رسميا، على غرار ما حدث مع ميليشيا الحشد الشعبي في العراق. وربما تحاول الإسراع في اتخاذ هذه الخطوة خلال المرحلة القادمة، بعد هزيمة تنظيم داعش في الرقة، واستعادة النظام سيطرته على بعض المدن الرئيسية مثل حلب ودير الزور والبوكمال، إلى جانب تزايد مخاوفها من أن تفرض التفاهمات الروسية مع كل من الولايات المتحدة وإسرائيل تداعيات سلبية على مصالحها. ولذا، فإن تعزيز نفوذ تلك الميليشيا داخل سوريا يمكن أن يحقق أكثر من هدف لإيران، ففضلا عن أنه سيكرس نفوذها على الأرض في مواجهة أي محاولات لتقليصه سواء كانت أميركية أو روسية، فإنه يمكن أن يوفر لإيران ورقة ضغط إضافية للتعامل مع أي تهديدات من خلال نشر تلك الميليشيا بالقرب من مرتفعات الجولان. ويمثل اليمن ساحة أخرى تسعى إيران إلى تكرار نموذج حزب الله فيها، من خلال حث حركة أنصار الله على الاستمرار في التمرد على الشرعية الدستورية والاستفراد بإدارة شؤون العاصمة والمدن التي تسيطر عليها، عقب تصفيتها للرئيس السابق علي عبدالله صالح. وترى إيران أن ذلك يساعدها في تهديد دول الجوار، خاصة السعودية، والاقتراب من خطوط المواصلات العالمية في باب المندب والبحر الأحمر وقناة السويس، بشكل قد يعزز موقفها أيضا في مواجهة ضغوط القوى الدولية. ويبدو تأثير حزب الله واضحا في الأداء العسكري للحوثيين، حيث قامت إيران بإيفاد كوادر من الحزب لتدريب أنصار الله، وظهرت بصمات الحزب في إطلاق الصواريخ الباليستية على السعودية، كان آخرها الصاروخ الذي استهدف العاصمة الرياض في 4 نوفمبر 2017. يدعو كل ما سبق إلى التأكيد على أن التعامل مع الميليشيات التابعة لإيران أولوية رئيسية بالنسبة للولايات المتحدة ولدول المنطقة والمجتمع الدولي المهتم بمحاربة الإرهاب وإطفاء نيران الصراعات في الشرق الأوسط. لكن، أي محاولة دولية للتعامل مع تهديدات طهران لن تحقق نجاحا كبيرا في حالة إذا لم تركز على مراقبة ومواجهة أذرعها العسكرية المنتشرة في دول الأزمات، باعتبار أن إيران تعول عليها في مواجهاتها المحتملة مع خصومها الإقليميين والدوليين، في إطار سياسة الحرب بالوكالة التي تتبعها في العقود الأربعة الأخيرة.
مشاركة :