"الفرق بيني وبين المجنون، هو أن المصاب بالجنون يعتقد أنه شخص عاقل، أما أنا فأدرك أنني مجنون". عبارة تلفظ بها الفنان الأشهر في السريالية سلفادور دالي، ليمعن في إقناع الآخرين بغرابة أطواره، ويكمل تلك المسرحية الاستعراضية التي يرى البعض أنه نفذها بحرفية. بشاربه الكث الطويل، واحتفاظه بعلبة صغيرة تحوي عدداً من الشوارب المستعارة لعرضها على الآخرين، عوضاً عن السجائر. غرابة أطواره تلك جاءت مكملة لأعماله، التي كانت انعكاساً لهلاوسه وكوابيسه، فتمكن من التنفيس عنها عبر لوحات تشي برغباته الدفينة، وخوفه من تلاشي الوقت والحروب، وسباحته في أحلام هلامية، بجمالية بعيدة عن الواقع. دراسات علمية عالمة الأعصاب والطبيبة النفسية نانسي أندرسون أنتجت عدة دراسات، للربط بين الإبداع والمرض النفسي أو العقلي، سواء كان متطرفاً يصل لحد الجنون، أم مجرد حالات مقتطعة من الكآبة والتقتير في السعادة. اعتمدت أندرسون على تقنية تصوير الدماغ، لعدد من المبدعين الحائزين على جوائز عالمية، كمنتج الأفلام جورج لوكاس، والكاتبة جاين سمايلي، للكشف عن خصائص مميزة في الدماغ لدى المبدعين، وذلك أشبه بما هو لدى المرضى عقلياً. سلفادور دالي تلك الدراسات تعيد إلى الأذهان جدلية الإبداع والجنون. وهو تساؤل أزلي، تثبته أقاويل لعدد كبير من المفكرين، كأرسطو الذي اعتقد بأنه: "لا يوجد عقل عظيم لا يحوي لمسة من الجنون". ذلك الإبداع قد يكون نتيجة لتفاقم القلق النفسي، والانحراف عن النمطية، ومحاولة التنفيس عن ذلك عبر لوحات أو كتابات أبهرت الآخرين بعمق آلامها. أم أن الإبداع كان طريقة في الحد من تلك الهلاوس والمخاوف، فالتنفيس عنها خاصة إن كان المبدع يتصف بانعزالية عن المجتمع، قد يكون عبر قالب فني مرهف. الفنان الإسباني فرانسسكو دي جويا، كان مصاباً بالوسواس القهري، وأنتج أعظم أعماله حين شارف على الخرف والجنون وتدهور الحالة العقلية، ما أطلق عليها اللوحات السوداء الـ 14. وشرع في الرسم المهووس على الجدران واللوحات. بل إن هناك عدداً كبيراً من مشاهير الفن والأدب، مصابون بالانفصام وثنائية القطب، وهم أكثر عرضة لحالات الكآبة ومحاولة الانتحار. أبرز تلك الشخصيات إيرنست همنجواي، فرجينيا وولف، جوجان، فرانسسكو دي جويا، إدفارد منش، وفنسنت فان جوخ. فما الذي ميز هؤلاء الذين امتزجوا مع العقلاء، وتميزوا بعمق إبداعاتهم عن أولئك الذين زج بهم في مصحات عقلية؟ يقول ميشيل فوكو إن عالم العقلاء والمجانين تم تشكيلهما وتحديدهما من قبل البيئة الثقافية داخل المجتمع. وهو ما يبرز من خلال تلك النظرة الانتقادية لغرابة أطوار بعض الفنانين في العصور القديمة كمايكل أنجلو، أعظم فناني عصر النهضة، المنعزل عن المجتمع وكأنه منفي اجتماعياً. عكست أعماله اكتئاباً حاداً. وكان الانطباع العام أنه ذو شخصية بغيضة، كثير الغضب والاشتعال. على حافة الجنون، إذ صادفه كثيرون وهو يصيح مخاطباً منحوتاته بألم وانتشاء مفرط، وكأنه ينتظر منهم الرد عليه. ستار الجنون تقول الفنانة المكسيكية فريدا كاهلو:"أتمنى أن أفعل كل ما أحبه خلف ستار "الجنون". أما الفنان النرويجي إدفارد منش، صاحب تلك اللوحة الشهيرة "الصرخة". والتي تتغلغل في أعماق المتذوق للفن، وتتعلق في الذاكرة، باح منش بحادثة إلهامه بتلك اللوحة، حيث جاءت وهو يرقب غروب الشمس مع أصدقائه، فاستوقفته نوبة هلع وكأن "الطبيعة كانت تصرخ في دمي. بعد ذلك فقدت القدرة على الحب مرة أخرى." أما إدفارد فكانت مترفة بانعكاسات الاختناق والهلوسة والضيق النفسي. حيث كان يتساءل: "لماذا أحيا؟" ويصف حياته منذ ولادته: "بذور الجنون، وملائكة الخوف، والحزن والموت وقفوا إلى جانب سريري منذ أن ولدت. وبأن حالته النفسية: "حالتي كانت تقترب من حافة الجنون ثم تبتعد." وكوسيلة للتنفيس عن تلك الأمراض الدفينة، تلامس الأنامل الفرشاة للرسم، أو القلم للكتابة. "لطالما أتذكر أنني عانيت من شعور عميق بالقلق، حاولت أن أعبر عنه من خلال أعمالي". من الرسومات الشهيرة لفان جوخ الذي يرجح إصابته بالفصام يعد فنسنت فان جوخ، من أبرز الفنانين المتسمين بخللٍ نفسي يشلّ توازنه العاطفي، إذ رجح غالبية المحللين النفسيين أنه كان إما مصاباً بثنائية القطب، أو الشيزوفرانيا، مما تسبب بإصابته بكآبة مزمنة، وإدمان للكحول، وكثرة البكاء في الليل. غرابة أطواره تمادت حتى اقترف فعالاً عجيبة، كوضع يده في مصباح مشتعل، بسبب رفض امرأة أحبها الزواج منه. وتلك الحادثة الشهيرة حين قطع جزء من أذنه وأهداها لمومس أعجب بها. وإذا ما عالج المبدع من تأزمه العقلي أو النفسي، بالتنفيس عن ألمه عبر أعماله، فإن آخرين لم يتمكنوا من اللواذ بالهرب من السجن الداخلي، فأدى ذلك إلى إنهاء حياتهم، كإرنست همنجواي وسيلفيا بلاث. الكاتبة بلاث، أدت كآبتها المفرطة إلى انتحارها في سن الـ 30، وذلك على الرغم من إبداعها في سن صغيرة، وتميزها الدراسي في مجال الأدب، وحصولها على عدد من الجوائز في كتابة الشعر. تسبب انهيارها العقلي الناتج عن إصابتها بثنائية القطب بإيداعها مصحة عقلية، وتعرضها لصدمات كهربائية. تصف تلك الفترة بأنها: "زمن من الظلام والقنوط واليأس والتوهم، داكن كجحيم يلم بعقل المرء، كموت رمزي وصدمة مخدرة. بعد ذلك يقود ذلك التأزم المؤلم لميلاد جديد بطيء، وتجديد نفسي. "قد يكون هربها من واقع ألمها عبر التنفيس الكتابي هو ما هدّأ من جحيم عقلها. وصفت سيلفيا حالتها الكتابية: "بالوقت الذي تتواصل فيه مع أكثر جانب صحي من ذاتها". أسرار البيوت يظل الربط بين الإبداع والجنون مقيداً بقراءات وأمثلة غربية بشكل عجيب، وكأن عالمنا العربي مازج بين السعادة واحتراف الفن أو الأدب. فالمرء إن شخص حالته النفسية بمرض ما تخفّى بين حبوب مهدئة وتسلل سري إلى أطباء نفسيين، وكأن في ذلك تشويه للسمعة يلتصق بالشخص حتى الفناء. المرضى النفسيون لا يظهرون إلا كشخصيات وهمية عبر أعمال أدبية كرواية "العصفورية" لغازي القصيبي، حيث يخاطب البروفيسور الماكث في مصحة عقلية طبيبته النفسية بثقة: "أولاً، يا دكتور، أنا لست مريضاً، أنا ضيف. خليل حاوي انتحر حزنا على اجتياح إسرائيل للبنان عام 1982 وثانياً لم يحدث في تاريخ العصفورية أن زارها إنسان مثلي. أنا لست إنساناً عادياً". فيبدو على الذات العربية لا تنكر فحسب وجود قلق داخلي وحاجة للعلاج، وإنما هناك تضخيم للأنا، ليعد كل شخص نفسه عبقرياً ينفرد العالم بوجوده. أما في رواية "جروح الذاكرة" لتركي الحمد، تعاني الشخصية المحورية لطيفة خوف محيطها من انتشار خبر تأزمها النفسي "كوباء مستفحل". تحاول أن تتجاوز هلاوسها واضطراباتها، "تحاول جاهدة أن تصلح من شأن نفسها طالما كانت واعية بذاتها، وإلا سقطت في جب الجنون.." وتترك أسرة لطيفة حالتها تتفاقم قبل الإذعان للحاجة إلى وضعها في مصحة نفسية. "ففي مجتمع كمجتمعنا سنجد أن مرضى النفس أكثر من مرضى الجسد، ولكن للبيوت أسرار". الشاعر والأكاديمي اللبناني خليل الحاوي، انتحر في منزله قرب الجامعة الأمريكية في بيروت، وذلك إثر فاجعته بالاجتياح الإسرائيلي للبنان في عام 1982، وكأن إحساسه المرهف أبى أن يساعده في التماسك والصمود. اعتبر من رواد شعر التجديد العربي. في ديوانه "ليالي بيروت" يتمتم بعبارات تنزف ألماً وتعبر عن قلقه النفسي وأفكار تشوبها محاولة انتحار: ويدي تمسك في خذلانها خنجر الغدر، وسم الانتحار رد لي يا صبح وجهي المستعار ردّ لي، لا أي وجه وجحيمي في دمي، كيف الفرار؟
مشاركة :