في اتصال هاتفي، أجراه في الأسبوع الماضي، الشاعر والروائي «محمد أبو زيد» مع صديقه الناشر «حسني سليمان» - صاحب ومدير شرقيات للنشر والتوزيع بالقاهرة - فوجئ به يصدمه بخبر يقول إنه مشغول باتخاذ إجراءات غلق الدار، مبررا ذلك بأن لكل بداية نهاية، ولكل قطار محطة أخيرة، وأنه كبر في السن وتعب وآن له أن ينسحب من مجال النشر. وأسرع «أبو زيد» يبث على موقع «تويتر» ما يشبه تغريدة استغاثة عاجلة، يوجهها لكل من يهمه الأمر، وكل محبي شرقيات، وكل من ساهم - ولو بجزء ضئيل في تشكيل وعيهم - لعلهم يتحركون ليشكلوا ما يشبه جهة ضغط على حسني سليمان، لعله يغير رأيه فلا يغلق دار شرقيات ولا ينسحب من ساحة النشر. والحقيقة أن لدي كثير من الأسباب، تدعوني للانضمام إلى هذه الجبهة، لعلها تنجح في الحيلولة دون وصول قطار دور النشر المستقلة التي يمولها ويديرها المثقفون أنفسهم إلى محطة النهاية، من بينها أنني كنت ممن استفادوا خلال ربع القرن الذي عاشته «شرقيات» منذ انطلقت في بدايات تسعينات القرن الماضي، من قراءة الكتب التي أضافتها إلى المكتبة العربية، ومن إبداعات الشعراء والروائيين والمترجمين الذين أضافت أسماءهم إلى قائمة المؤلفين الذين لم تعرف هذه القائمة لهم إنتاجا أدبيا مطبوعا من قبل.. فضلا عما أضافته للمكتبة العربية من ترجمات قديمة وحديثة لشوامخ الكتب العالمية، التي لم يسبق ترجمة بعضها إلى اللغة العربية، وفضلا عن أنني حاولت أن انضم إلى هذا الفصيل من الناشرين العرب، الذي يمثله «حسني سليمان»، فواجهت صعوبات دفعتني للانسحاب من الساحة، فإن تاريخ الثقافة العربية، الحديثة والمعاصرة، يحتفظ لهذا النوع من دور النشر، بمكانة رفيعة، وبإسهامات جليلة لا يجوز لنا أن ننساها، أو أن نسمح بتكرار المآسي المؤلمة التي قادتها إلى محطة النهاية. وربما كانت «لجنة التأليف والترجمة والنشر» واحدة من أوائل دور النشر التي أسسها فريق من المثقفين المصريين من خريجي مدرسة المعلمين العليا.. كانوا يجتمعون أثناء الحرب العالمية الأولى بمقهى بحي «عابدين»، كانت من بينهم أسماء لمعت - بعد ذلك - في مجالات الأدب والثقافة والتربية والتعليم، منهم «محمد فريد أبو حديد» و«د. أحمد زكي» - أحد رواد تبسيط العلوم في الثقافة العربية - وقد رأس فيما بعد جامعة القاهرة، وتولى رئاسة تحرير الهلال بين عامي 1947 - 1951، وأسس مجلة العربي الكويتية الثقافية عام 1958، فضلا عن آخرين ممن درسوا في غير المعلمين من المدارس العليا، منهم العلامة «أحمد أمين» صاحب موسوعة «فجر وضحى وظهر الإسلام» - الذي تخرج في مدرسة «القضاء الشرعي» وأسفرت المناقشات فيما بينهم، عن تأسيس «لجنة التأليف والترجمة والنشر». وكانت اللجنة تتألف من أعضاء يدفع كل منهم اشتراكا شهريا قدره عشرة قروش، وقد بدأت نشاطها بإصدار مجموعة من الكتب التعليمية تبسط - باللغة العربية - أساسيات العلوم والآداب لطلاب المدارس الثانوية المصرية، ثم بدأت تدريجيا تتجه لنشر الكتب المؤلفة والمترجمة في مجالات المعرفة المختلفة.. وقد ظلت اللجنة التي تولى رئاستها العلامة «أحمد أمين» تنشط لمدة تجاوزت نصف القرن، أصدرت خلالها عناوين منتقاة بعناية في مختلف الثقافات، كما أصدرت أسبوعية ثقافية لعبت دورا مهما في الحياة الفكرية العربية، هي مجلة «الثقافة» (1938-1952). ولم تكن لجنة التأليف والترجمة والنشر تعتمد فحسب على اشتراكات أعضائها الزهيدة، بل كانت تعتمد - كذلك - على بعض قروض وتبرعات الموسرين من أعضائها.. كما كانت تحصل على دعم من وزارة المعارف، يتمثل في شراء عدد من نسخ ما تنشره من كتب، تودعه في مكتبات المدارس التي تتبعها، بما يغطي نفقات الطباعة ما يسر على اللجنة الاستمرار في إصدار مطبوعاتها إلى أن توقفت عن النشاط بعد رحيل مؤسسها «أحمد أمين» عام 1954. وتشكل لجنة النشر للجامعيين نموذجا آخر لمشروعات النشر التي يتولى المثقفون بأنفسهم تمويلها وإدارتها، وكان صاحب فكرتها هو الروائي والقاص «عبد الحميد جود السحار»، الذي كان يهوى كتابة القصة.. ولأنه كان ينتمي لأسرة يعمل معظم أفرادها بالتجارة، فقد حاول أن يقنع أحد أشقائه، الذي اتجه إلى إنشاء «مطبعة مصر» لكي تطبع وتنشر الكتب الخارجية التي يستعين بها طلاب مدارس التعليم العام، بأن يضيف إلى ما ينشر، نشر الكتب الأدبية، اعتذر بمحدودية توزيعها، وأثناء بحثه عن ناشر، اكتشف أن هناك جيلا كاملا من الأدباء يحصل كثير من أفراده على جوائز من جهات رسمية وبشخصيات أهلية، في كتابة الرواية والقصة القصيرة، ومع ذلك لا يجدون من ينشر لهم ما كتبوه كان من بين هؤلاء «نجيب محفوظ» و«على أحمد باكثير» و«عبدالحليم عبدالله» و«عادل كامل» و«صلاح ذهني».. فباع جانبا من مصاغ زوجته، وأسس «لجنة النشر للجامعيين» عام 1942 التي تركز نشاطها في نشر الأعمال الأدبية خاصة الرواية، واستطاعت على امتداد ما يقرب من عشر سنوات، أن تصدر - كما يقول صاحبها في مذكراته - سبعين كتابا قبل أن تندمج في «مكتبة مصر» التي تولت بعد ذلك احتكار نشر أعمال بعض الذين قدمتهم اللجنة، بينما انتقلت الفكرة التي قامت عليها اللجنة إلى «نادي القصة»، الذي تأسس عام 1952، وكان صاحب فكرته هو «إحسان عبدالقدوس»، بينما تولى «يوسف السباعي» إدارته، وضم عددا كبيرا من الروائيين وكتاب القصة الذين ينتمون إلى الأجيال السابقة على جيل «عبدالحميد جودة السحار»، واللاحقين لهم وأصدر سلسلة شهرية للأدب القصصي عاشت ما يقرب من خمس سنوات، قبل أن تبدأ أحوالها المالية في التدهور، ويصل القطار بها إلى محطة النهاية. في هذه التجارب وغيرها، كانت المشاكل المالية هي سبب تدهور ثم توقف المشروع، على الرغم من تعدد الصيغ التي اتبعها أصحابه في تمويله وفي إدارته المالية، إذ كانت لجنة التأليف والترجمة والنشر، أقرب ما يكون إلى جمعية أهلية تمارس النشر، بينما كانت لجنة النشر للجامعيين أقرب إلى مشروع فردي لا يهدف صاحبه إلى الربح، في حين بدأ نادي القصة أقرب ما يكون إلى صيغة لجنة التأليف والترجمة والنشر، يجمع بين الجمعية الأدبية والناشر الذي لا يهدف إلى الربح، ثم انتهى إلى توقف؟؟؟ عن أي نشاط مؤثر. وفي حدود ما أعلم، فإن دار «شرقيات» اتبعت صيغة مالية مختلفة، تقوم على مشاركة المؤلف مع الناشر، في تحمل نفقات إصدار الكتاب، وفي اقتسام أرباحه أو خسائره، ومع ذلك فقد فشلت التجربة ماليا، وانتهت إلى ما انتهى إليه غيرها، على الرغم مما حققته من مكاسب أدبية، وهو ما يتطلب هذه المرة، ألا نكتفي بتشكيل قوة ضغط تسعى فحسب لكي تحول بين «حسني سليمان» وتمنعه من إغلاق دار شرقيات، وتمنعه من الرحيل عن ساحة النشر، بل تبحث - كذلك - عن الأسباب الأعمق، التي تنتهي دائما بهذا النوع من المشروعات إلى تلك النهاية المأسوية!
مشاركة :