يقدم كتاب «الشاعر الجاهلي والوجود» للدكتور باسم إدريس قاسم «دراسة فلسفية ظاهراتية بقراءة جديدة للشاعر العربي في عصر الجاهلية، وهو حصيلة خبرة تتجاوز العشرين عاماً أمضاها المؤلف في قراءة الشعر الجاهلي ومدارسه مع الطلبة والأساتذة في الجامعات العراقية. يتخذ الكتاب من الظاهراتية منطلقاً فلسفياً لدراسة الشاعر العربي الجاهلي، للتعرف إلى طبيعة وجوده الإنساني، والبحث في هذه الطبيعة، وفي ما يمثله الشعر الجاهلي في الرؤى العربية الإسلامية قديماً وحديثاً، ثم في التصورات الاستشراقية الغربية الحديثة التي أسقطت حال بدو العرب في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر على البيئة الاجتماعية للشاعر الجاهلي بموضوعية وحيادية فلسفية، معتمداً الكاتب بذلك على المقارنة الظاهراتية التي يسعى من خلالها لتحقيق الحيادية من جهة ولاعتماد نظرة ذاتية جديدة من جهة أخرى تستبطن الظاهر لتصل إلى الماهية المتوارية خلف المرئي. يتساءل الكاتب: ما الذي يمثله الشعر الجاهلي فلسفياً من وجود الشاعر؟ وكيف يحقق الشاعر وجوده بهذا الشعر؟ هذا هو مدار هذا المبحث، ونحن لا نستطيع أن نفهم خصوصية تمثيل أي فن من الفنون لوجود الإنسان في عصر ما، ونحن لو تمعنا فيما قاله الشعراء الجاهليون لوجدنا أن حالة الموت ومجابهته وكثرة الحروب وانتشار الجوع والقتل هي حالة العالم التي كانت تحكم كل فرد من أفراد ذلك المجتمع العربي الصحراوي، فكانت حالة عامة وذاتية في الوقت نفسه، لذلك نجد الشعراء الذين وصفوها وعانوها، كانوا لا يعبرون عن أنفسهم فقط، بل عبروا عن ذات ووجود كل عربي في هذه الصحراء، ولهذا مسّ الشعر شغاف قلوبهم، وقال الشعراء ما في أنفس الناس أن يقولوه. وكان إحساس الموت هو الذي كان يمس الشعر الجاهلي في حله وترحاله، متجهاً إلى ثلاثة مسالك يسرب بها هذا الإحساس: المسلك الأول من يقنع نفسه أن حاله كحال بقية الناس من حتمية الموت فيلقي نفسه في كينونة القطيع ليسهو ويتغافل عن مجابهة الموت والعدم، وهذا مسلك من يعيشون حياة القطيع بالوجود الزائف والكينونة. المسلك الثاني هو أن يستسلم كلياً للموت ويشعر بانعدام إرادته أمامه فيرضخ خانعاً له ذليلاً ويعيش حياته يائساً ضعيفاً مهزوماً يحاول الهرب من الموت بشتى أنواع اللذات واللهو والعبث، وهذا المسلك هو الذي فسرت به أكثر الدراسات الاستشراقية والعربية الحديثة والمعاصرة حياة الشاعر الجاهلي ووجوده فصورته مريضاً نفسياً مهزوماً هارباً مستسلماً للموت لا إرادة له أمامه. المسلك الثالث: الذي يجده المؤلف يفسر وجود الشاعر الجاهلي فهو معاكس للمسلكين السابقين، وهو اتخاذ موقف المجابهة والتحدي للموت واليقين من سمو الوجود الذاتي لذلك الإنسان والمحفز له لتحقيق وجوده الأصيل، وهذا المسلك هو الذي يفسر الماهية الفلسفية للشعر الجاهلي، ذلك أن الشاعر الجاهلي، وبسبب تأزم شعوره بأنه «وجود للموت» ألقى وجوده الوثني الزائل الجميل في وجود ممكن جميل وأثيري لا زماني خالد لا يزول ولا يملك الموت إليه سبيلاً، وهو عالم الشعر ووجوده ليضمن له الخلود والبقاء، وليحقق له وجوده الأصيل، شكلاً من أشكال التناسخ الوجودي الفلسفي الحقيقي لا المجازي ولذلك أودع الشاعر الجاهلي كل حياته ووجوده وأحلامه وأحزانه وجمال عالمه الصحراوي الذي أحبه في هذا الشعر، كما أودع فيه روحه في الكلمات والإيقاع، فنحن حين نقرأ شعر امرئ القيس نحس بروحه بكلماته، ونحن باختلاف هذه الروح عن روح شعر زهير أو النابغة المتلبسة كلماتهما، وهذا ما أكده الفيلسوف «كانت» من تجسّد الروح في الفن ولا سيما عند عباقرة الفن العظماء، كما جسد الشاعر الجاهلي حياته ونقلها إلى الحياة في الوجود الشعري، هذه الحياة التي بكاها، لأن ظهور الشعر كان بكاء على الحياة.. هذه الحياة التي تختلف عنها في الواقع، لذلك قيل إنها لا تعكر واقعه، وقيل إنه يكذب في شعره، والحق أنه نقل الناس في ذلك العصر إلى هذه الحياة التي أودعها في الوجود الشعري كي ينقلهم إلى وجود جديد أفضل وأسمى وأحسن. ويشير المؤلف إلى أنه كيف شكل الشاعر الجاهلي واقعاً جديداً للوجود دعا الناس إليه، إن سبيله في ذلك هو التصوير الشعري، إن الصورة في الشعر الجاهلي ليست مجرد تزيين أو تلاعب أو تفنن في كيفية صوغها بالتشبيه أو الاستعارة أو غير ذلك كما يراها القدماء وأكثر المحدثين، إن الصور كانت طريقة الشاعر في التفكير بوجوده وتغيير هذا الوجود، الشعر كما يقول بيلينسكي هو تفكير عن طريق الصور، كما هو كذلك في الرسم والنحت والعمارة، هذا النوع الصوري من التفكير غريب عن تفكيرنا العلمي المباشر بالأشياء، والشعر في ذلك كالحلم تماماً، فالحلم أيضاً تفكير عن طريق الصور غير المترابطة في الأغلب ولكن وراءها ما يجمع خيط هذه الصور، ونحتاج إلى تفسير صور الحلم المتفرقة لنعرف ما وراءها من فكر وإحساس، كذلك هو الشعر الجاهلي الذي تحتاج لغته الصورية الحلمية هذه إلى تفسير وتأويل كي نتعرف إلى ما وراء ما يجمع هذه الصور بالذات دون غيرها مما أثار الشاعر في موضوع شعري معين، وقد عمد المؤلف إلى تفسير وتأويل نماذج من هذه الصور الشعرية في بعض أشعار الجاهليين لنعرف كيف تمثل الصورة تفكيراً في الوجود مما يمثل فلسفة وجودها في الشعر الجاهلي. في أحد فصول الكتاب (الفصل الثالث) ينتقل الكاتب إلى العلاقة الجدلية بين وجود الشاعر الجاهلي ووجود الآخر الإنساني الذي هو ألصق بالذات الشاعرة من الخارجي الطبيعي، وهو يمثل جانب معرفة درجة تحقيق الوجود للشاعر الجاهلي، فكلما عكس الشاعر وجوده في هذا الآخر من فقير أو ضعيف أو أرملة أو أسير أو خائف، أو امرأة أحبها أو أم احترمها أو أخ أو أخت، تعلق بهما شعر بتحقيق وجوده السامي، وبهؤلاء وغيرهم يرتسم الوجود الحقيقي عند الشاعر الجاهلي وتنعكس معرفة الأفضل وجوداً بين أبطال وفرسان وشعراء العرب. ويؤكد المؤلف أنه يستطيع أن يقول إن ما يختصر الحياة الجاهلية في علاقة الشاعر بالآخر هو الحب، وهو الذي يراد منه رد جميل أو فضل أو منفعة أو مصلحة، إنه معرفة بقدرة الذات المحبة في العطاء الكبير وإيمانها بوجودها لا تنتظر مقابلاً لذلك، الحب هو حرية وجمال للذات سواء كان نحو امرأة أو رجل، والحب يقوم على الشعور بالواجب الذاتي والمسؤولية الوجودية الخالصة من الغرض والمنفعة والمردودات. إن هؤلاء الشعراء الذين حققوا أروع صور الوجود الإنساني هم الذين رسموا حضارة ذلك العصر، وهم الذين مهدوا بهذه الأخلاق الجميلة الحرة لمجيء الإسلام، وبذاك نفهم قول أبي عمرو بن العلاء: كانت الشعراء عند العرب في الجاهلية بمنزلة الأنبياء في الأمم.
مشاركة :