القطب الشمالي.. ساحة مواجهة جديدة

  • 12/21/2017
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

د. نيللي كمال الأمير دفعت الآثار المدمرة لتغير المناخ بالقضية البيئية كي تصبح أحد البنود الأساسية على طاولات كثير من مفاوضات الاتفاقات الدولية والمعاهدات الإقليمية، وأضحت «السياسة الدولية البيئية» تحظى باهتمام صانع القرار يوما بعد يوم على الصعيدين الداخلي والدولي. دفعت كذلك الطبيعة العابرة للحدود القضية البيئية بخلق حالة يمكن أن نطلق عليها «عولمة بيئية»، فتداعيات الأزمات البيئية تسافر لمسافات جغرافية متخطية الموقع الذي حدثت به الكارثة البيئية، ويصدق ذلك- وإلى حد بعيد- على كارثة التدهور البيئي في القطب الشمالي.إقليم القطب الشمالي، وعلى خلاف القطب الجنوبي غير المأهول بالسكان هو عبارة عن محيط متجمد (وقد كان حتى عقود قليلة مضت متجمداً بالكامل) تزيد مساحته عن مساحة الولايات المتحدة وتعد الأخيرة من الدول المحيطة به إضافة إلى أربع دول أخرى، وهي كندا والنرويج وروسيا والدنمارك، ولديه سكانه الأصليون، يصل عددهم إلى 4 ملايين نسمة يعيشون في مجموعات صغيرة ومتفرقة كالإسكيمو، وغيرهم. تصل درجة الحرارة في القطب الشمالي إلى أربعين درجة تحت الصفر وحتى خلال فصل الصيف، يندر أن ترتفع درجة الحرارة عن درجة التجمد، ولذلك لم يكن مستغربا أن يكون معظم سكان الإقليم من غير البشر أي من الحيوانات والطيور والكائنات البحرية القادرة على التكيف مع تلك الظروف القاسية، علاوة على عدد من الحفريات لبعض أقدم أشكال الحياة على كوكب الأرض التي تخبر العلماء والباحثين - والذين يستقلون عادة المروحيات للوصول لهناك- تفاصيل ما حدث في المراحل الأولى من عمر الأرض.وقد أدت ظاهرة تغير المناخ إلى ظاهرة الاحتباس الحراري فارتفعت درجة حرارة الأرض، فذاب حوالي 20 ألف كم مربع من الجليد بمعدل سنوي منذ عام 1981، ما أدى لحدوث تغيرات جذرية في بيئة القطب الشمالي أهمها التحول التدريجي من محيط متجمد إلى محيط عادي، وهو ما سمح للسفن البحرية في الملاحة هناك، وبداية ولادة مسار بحري يربط بين آسيا وأوروبا وأمريكا الشمالية، علاوة على دخول السفن والمعدات الخاصة بالتنقيب عن الغاز والبترول.وبالرغم من حالة التدهور البيئية تلك، نجد من المفارقات أن تحولت تلك النقمة أو الكارثة البيئية إلى «نعمة»، ولكن بالنسبة لبعض الدول، فقد أطلقت الولايات المتحدة الأمريكية «سياسة قطب شمالي واحد وفرص مشتركة»، في ترجمة وتعبير صريح عما تمثله تلك المنطقة من أولوية للقطب الأمريكي خاصة فيما يتعلق بحركات استكشافها للموارد الطبيعية. كذلك يتوقع للمسار البحري الجديد والناشئ بعد ذوبان المحيط والذي سيتيح الربط بين آسيا وأوروبا جني روسيا لأرباح قد تصل إلى نصف مليون دولار في الجولة الواحدة. علاوة على حركة هجرة للكائنات البحرية التي يمكنها العيش في تلك البيئة الجديدة، مما سيخلق مجالا جديدا للصيد البحري وربما الجائر أيضا سعيا لتحقيق مصالح تجارية. من ناحية أخرى، يعكس الوضع في القطب الشمالي حالة العلاقات الدولية السائدة، وملامحها، فعلى الرغم من أن الإطار القانوني الحاكم لاستغلال الموارد في القطب الشمالي يتمثل في معاهدة الأمم المتحدة لقانون البحار لعام 1982، يشهد الإقليم نزاعات بين دوله فيما يتعلق بفرض السيطرة، فإقليم القطب الشمالي لم يسلم من التنافس التقليدي الأمريكي- الروسي عسكريا. فنجد روسيا تجري - بصفة شبه دورية- مناورات عسكرية في حدود إقليمها بالقطب الشمالي بمشاركة كثيفة من قوات تقارب عادة المئة ألف جندي مسلحين بالغواصات والطائرات والسفن. أما الولايات المتحدة الأمريكية فخلال إعدادها واستعدادها لأية مواجهة محتملة مع كوريا الشمالية، فإنها تقوم بإنشاء قواعد صواريخ مقرها القطب المتجمد. والواقع أن المواجهة بين الدولتين- من خلال ساحة القطب الشمالي- حدثت من قبل أثناء الحرب العالمية الثانية وما تلاها. كذلك لم تمر حقيقة ما يزخر به القطب الشمالي من موارد طبيعية متنوعة ما بين الحديد والغاز وموارد الطاقة المتجددة والمعادن الأخرى من بين يدي الدول المحيطة التي تتنافس على السيطرة على أكبر قدر منها.في اتجاه مغاير، تتضافر الجهود العلمية والبحثية على المستويين الإقليمي والدولي لمتابعة حالة «ذوبان» القطب الشمالي، وتقوم بعض المنصات العلمية بمتابعة يومية وأسبوعية لحجم الذوبان، وتشير آخر التقارير المنشورة إلى أن مستوى الجليد في نوفمبر/تشرين الثاني 2017 كان الأقل من المتوسط منذ عام 1981، مما ينبئ بصدق التقديرات الخاصة بذوبان المحيط بالكامل قبل عام 2020! وتتسق جهود حركات ومنظمات البيئة غير الحكومية مع التحركات البحثية تلك، من ذلك تحركات دعم البيئة في القطب الشمالي التي تقوم بها حركة السلام الأخضر التي نظمت حملة «أنقذوا القطب الشمالي» وكان هدفها جمع التبرعات ورفع الوعي بمخاطر ذوبان جليد القطب الشمالي ووضعه البيئي. ولكن، يبدو أن تحول القطب الشمالي من محيط متجمد إلى محيط عادي بات أمراً «مقبولاً» بالنسبة للدول فبدأت تنشغل بتنظيم الملاحة، تحسباً لزيادة الطلب على الإبحار هناك، ولذلك اعتمدت منظمة الملاحة الدولية «المواصفات الدولية للسفن المبحرة في مياه القطب الشمالي»، مطلع العام الجاري، بعد أن ذاب جزء من جليده متحولاً لمياه تصلح للملاحة وتخلق معها مسارات بحرية جديدة.يتضح إذاً أن الحالة المتدهورة بيئياً للقطب الشمالي قد تجلب حالة من الانتعاش الاقتصادي أو على الأقل الرواج التجاري للدول المحيطة بالمحيط الذي كان متجمداً، مما يعني أن الوضع في القطب الشمالي قد يتطور خلال السنوات القادمة مشكلا صورة أكثر تعقيدا. فمن ناحية سيكون هناك الباحثون والعلماء الباحثون عن مخرج لوقف نزيف «الذوبان»، في مقابل الدول التي تستعد لاغتراف المكاسب التجارية من البيئة الجديدة في المحيط والآخذة في التوسع، ومن ناحية ثالثة فهناك النزاع المحتمل في المواجهة بين الدولتين الأكبر عسكرياً بين الدول المحيطة به، الولايات المتحدة وروسيا، حيث تتخذ كل منهما القطب الشمالي للاستعداد للمواجهة مع دولة تعد عدواً لدوداً للأولى وحليفاً هاماً للثانية في الوقت ذاته، وستكشف السنوات القادمة عن الاتجاه الذي سيسود بالقطب الشمالي إن كان البيئي أم الاقتصادي أم الأخطر على الإطلاق، العسكري؟ nkamalm@yahoo.com

مشاركة :