في نهاية الستينات من القرن الماضي وكانت قد بدأت في إعداد وتقديم برنامج فني ثقافي منوع للإذاعة وقتها زار البحرين الفنان أبو بكر سالم وسكن في فندق دلمون الذي يعتبر وقتها أرقى فندقين في البحرين مع «مون بلازا». حملت مسجلي الكهربائي حيث لم تكن مسجلات البطاريات قد وصلتنا يومذاك ويممت شطر وجهي إلى فندق دلمون مع سائق باص الاذاعة المرحوم جواد بن رجب الذي امتاز بسياقة تسبقها في السرعة أثقل سلحفاة في التاريخ وكنا نتندر على سرعته وكان رحمة الله عليه يضحك ويقهقه. ولم أتصور أن ذلك الفنان بهذا التواضع القريب إلى القلب والروح كان يرتدي بدلة كحلية كاملة الطقم وأصر على ان نصعد معا إلى غرفته ليكون تسجيلنا هادئًا بدون أصوات تتداخل معه من الزوار الذين ملأوا القاعة وقتها وكان معظمهم أجانب على ما أذكر. أنهينا التسجيل بلقاء إذاعي جميل ثم أصر على ان ننزل معًا إلى سوق المنامة حيث يريد ان يجلس في مقهى شعبي بسيط مع البسطاء، وهكذا كان ان استمرت جولتنا إلى اذان المغرب فودعني وكأن عمرًا من الصداقة يجمعنا. ولم تسنح لي ولا له فرصة لقاء آخر إلى ان توفاه الله ورحل ذلك الانسان الطيب. ولم أكن أعلم أن له جمهورًا واسعًا في البحرين الا بعد اذاعة اللقاء حيث انهالت اتصالات عديدة من مستمعين بحرينيين وخليجيين ويمنيين تسأل عن إعادة اللقاء وعن زيارة ابو بكر سالم واين يقيم وهل ستكون له حفلة عامة للجمهور وما إليها من اسئلة. لا توقع ان مكتبة الاذاعة مازالت تحتفظ باللقاء حيث الامكانيات وقتها قليلة وجدا متواضعة فكنا نستهلك الشريط الواحد لتسجيل لقاءات كثيرة عليه فامسح وسجل كان شعارنا نحن الاذاعيين من جيل المخضرمين، وقد فقدنا بسبب ذلك لقاءات نادرة لفنانين ومبدعين كثر. وأبو بكر سالم واحد من الفنانين الذين ظلوا متمسكين باللحن والايقاع والاداء اليمني العربي الاصيل ساعده على ذلك سعة معرفته واطلاعه عن قرب على جميع ألوان الفنون اليمنية التي غاص فيها بحثا عن خصائصها واستعادها بصوته الذي يذكرك بالزمن العربي الذي كان للفن فيه رائحة ونكهة محلية أثرت الفنون العربية واغنتها. وقال القريبون منه إن أبوبكر سالم فنان حقيقي لم تسكنه الغيرة والحسد بل كان ينتشي بأداء غيره من الفنانين ويندمج معهم رغم انهم في بداية الطريق وكان يوجه وينصح ويعطي من مخزونه الفني للشباب بلا حدود. هكذا قالوا عنه وأضافوا أنه كان يزور اليمن ويتقصد الذهاب إلى حيث الفنانين الشعبيين ليشاركهم الغناء وكأنه لم يغادر اليمن وكان يبكي بدموع فنان لأداء البعض منهم، وقد رأينا له تسجيلاً بالصوت والصورة ودموع الفنان تتساقط من عينيه وهو يستمع للفنان كرامة مرسال في حضرموت. وكان المرحوم الفنان كرامة مرسال معتزًا بزيارة ابو بكر لتلك الجلسة الفنية الشعبية التي تألق فيها مرسال كعادته مع صوته الجبلي الاخضر بحنان يغوص إلى الاعماق ويحلق في الآفاق. فهل نحن جيل محظوظ ان عشنا وعايشنا اولئك الفنانين في ذروة عطائهم وتدفقهم، ام اننا جيل حائر لا يعرف إلى أي فن ينتمي وقد مرت بنا ألوان وأصوات وأشكال من الفنون المختلفة فكدنا معها ان نقف في منتصف الطريق لا نعرف هل نكمل المشوار أم تبتعد عن الجديد ونظل مع القديم فقط. في كل الأحوال انها مجرد تداعيات لذكريات جميلة تركها في وجداننا الفني وفي ذاكرتنا الانسانية ذلك الفنان الجميل ابو بكر سالم الذي ودعنا فبكى قبل الوداع على المسرح لجمهور أحبه كإنسان وعشقه كفنان رحمة الله عليه وعلى من أبدع واعطى وزرع في طريقنا وردة عشق للانسان وللأرض وللفن والابداع الذي يثري الوجدان ويرتقي بالإنسان.
مشاركة :