يتحدثون عن موت التاريخ ونهاية القضايا الكبرى، وعن فقدان الهوية في خضم استراتيجيات المعاصرة، التي وضعت خواتيم الألفية الثانية ورسمت بدايات الألفية الثالثة على موجات الصراع وصدام الحضارات. أما في الفنون الفلسطينية الراهنة فإنّ التاريخ لا يموت، بل ينبثق دوماً من قلب القضية نفسها ولكن كل مرة بحلّة جديدة. لا حدود بين الفن ومشهدية الحدث، ولا حواجز تحول دون وصول مشاهد الاقتلاع والتعسف إلى حواضر العالم، التي تعكس فواجع النضال من أجل حرية الأرض وحقوق الحفاظ على رونق القدس عاصمة أبدية لفلسطين، ملتقى الحضارات والأديان السماوية وأولى القبلتين. لا شــك أن مدينة القدس بتاريخها الثري ومكانتها المقدسة والأحداث التي مرت عليها ونمط عمرانها وهندستها، شكّلت مصدر إلهام للمبدعين والفنانيــن العرب، الذيــن استوحوا ألوانهــا وعماراتها وأحياءها وتراثها كمفردات وموضوعات للوحاتهم، في استنباط تداعيات الأرض- التراث والقدس المقاومة والانتفاضة. بقيت عروس المدائن مكلّلة بالحنين طوال حقبة السبعينات في نتاجات الفنانين التشكيليين العرب، الذين عبّروا عن مواقفهم تجاه القضية الفلسطينية على أنها رمز الشهادة والجرح النازف، فجاءت الرموز المستخدمة في الأعمال الفنية من عناصر مأخوذة من الحياة الفلسطينية، وبرزت المرأة بلباسها الفلسطيني التقليدي وكذلك الزخارف الشرقية والخط العربي ووحدات التطريز، في محاولة لتأكيد الهوية التي يسعى المحتل إلى طمسها أو مصادرتها. كما برز الحصان كرمز للثورة والحمامة البيضاء الجريحة، وانتشرت القبضات والبنادق والأسلاك الشائكة. ومنهم من ربط رموز القدس المعماريّة الإسلاميّة والمســـيحيّة، بموضوع الشهادة والشهداء. تأتي لوحات الرائد إسماعيل شموط، في طليعة الأعمال التي كرّست وجود المرأة كرمز للنضال والعطاء، هي التي أخذت على عاتقها، ضخ قوافل المناضلين والشهداء وصناع الحياة. وكان شموط ربط بين القدس والجماهير المزروعة حولها كجذور الشجر العتيق، حيث قبة الصخرة الذهبية هي محور النظر وبيت القصيد. والقدس هي بيوت وأسوار ومساجد وكنائس وأشجار ونسيج عمراني وسماء مطرزة بالنجوم في لوحات تمام الأكحل ورسوم برهان كركوتلي، وعبد الرحمن المزين، وتوفيق عبد العال. وفي حين سطر مصطفى الحلاّج في محفوراته ملحمة النزوح الفلسطيني والتشرد بحثاً عن الأرض الضائعة، وجوهرتها القدس، شكّل الانتماء وجع الفنانة المقدسية جومانا الحسيني التي أسست لغتها التشكيلية على استذكار الصور العابرة لجماليات المكان الذي تفتحت فيه موهبتها. استوحت في لوحاتها جمال أبنية مدينتها العتيقة وطرازها المعماري والزخرفي، بقبابها المتراصّة وسمائها وشمسها وأشجارها وعصافيرها، فبدت لوحاتها- بنقاء ألوانها وبساطة هندستها- كأنها شرائط الذاكرة التي تمر بواجهات مدينة القدس، وهي تلوح لها من بعيد. وإذا تتبعنا المسير لا بد لنا من التوقف عند واحدة من أهم اللوحات التي دخلت في سوق الفن العالمي من بابه العريض كتعويذة شعبية وقيل كأيقونة للشتات الفلسطيني، وهي لوحة «جَمَل المحامل» لسليمان منصور (بيعت في مزاد كريستيز في دبي بمبلغ 275 ألف دولار) التي رسمها في منتصف السبعينات من القرن الفائت، وتمثل حمّالاً عجوزاً صابراً على مشقة الرحيل، يحمل مدينة القدس وصخرة الأقصى على ظهره مربوطة بحبل الشقاء. بلا شك أن العالم الراهن يعيش على الحافة، لا سيما حين يتقلص الوجود الإنساني ويتراجع إلى درجة التقهقر. وفي هذا العصر الموصوف بالهزائم يتبدى موقع الصورة وسلطتها في خلق ثقافة بصرية جديدة متزامنة مع صناعة الحدث ومراياه المنعكسة على حركة الفنون المعاصرة وتداولياتها السريعة. فالفن ليس إلا مجالاً للفكر التحرري، بالمعنى الاعتراضي، ذلك ما يمكن فهمه من الصورة الافتراضية التي طرحتها الفنانة الفلسطينية ريدا سعادة حين ربطت نفسها بحبل وهي تجهد في دفع الجدار الفاصل الذي بناه الكيان الصهيوني لإزاحته. إذ إن حرية القول والفعل والأداء لم تعد تحتاج سوى إلى فكرة صادمة أو أدوات بسيطة في تكوين العمل الفني، الذي يأخذ في تجهيزات منــى حـاطوم دلالات استفزازية عميقة من خلال عرض أدوات مطبخ بسيطة في ظاهرها أو قطع من أثاث بيوت، ولكنها في تكاوينها وخاماتها المغايرة، تتحول أدوات إزعاج وتعذيب وقتل ومنصة لإثارة السخط والتوتر عند الجهر بالحقيقة. «المنفى لا يمنح حياة جميلة كما أن الحياة في وطن محتلّ ومن دون حريات حالة معذبة وتغتال الخيال الفني»، العبارة قالها ذات يوم الفنان سمير سلامة، الذي نقل من منفاه الباريسيّ بأسلوبه اللوني التعبيري الكتابات العربية والشعرية إلى مادة للخيال. وبين باريس وبيروت تنقل ناصر السومي بالرسائل التي جمعها من العائلات الفلسطينية كي يعلّقها داخل صناديق تحوي على قشور البرتقال الفوّاحة وزجاجات من ماء يافا، ولكنه توقف أمام قبة الصخرة التي رسمها مراراً وتكراراً باللونين الذهبي والأزرق الإنديغو، الذي أطلقه كرمز للون فلسطين الأول، نسبة إلى نبات النيلة وحيوان المريق البحري المتوافر في فلسطين. إن الانتقال من الحداثة إلى المعاصرة حوّر لغة التوجه وأساليبه من الوصف المباشر ذي الطابع المأسوي والتعبيري، إلى التوثيق التاريخي والنقدي للذاكرة الجمعية ولو من زاوية شخصية، على نحو ما فعلته الفنانة ساميه الحلبي، في فلسفتها اللونية التي جرّدت الشكل من ماديته كي تضعه في إطار بصري جديد قائم على لغة اللون وحضوره في الفضاء. هكذا رسمت الطبيعة التي أعطتها منحى سياسياً وشكّلت من الورق عناقيد وثريات متدليات من فضاء الذاكرة، وأخذت من قبة الأقصى شكل استدارتها كي ترسمها على أنها من رؤى الغائب. ولعل رمزية الشاب الملثم التي ظهرت في نتاجات بعض الفنانين العرب في طليعتهم أيمن بعلبكي من لبنان وليلى الشوّا من فلسطين، قد أعادت الاعتبار إلى مشهدية فن الشارع والصورة الخاطفة والمموّهة للاستشهادي بحلّته الغامضة. وبعد تناقل صورة اعتقال الطفل الفلسطيني محمد الجنيدي الذي بدت آثار الضرب واضحة على وجهه، تحولت الصورة إلى أيقونة المواجهات الدائرة في الضفة والقدس، وهي التي ألهمت الرسامة الإيطالية إليسيا بيلوزي على استخدام رمزية العلم الفلسطيني بعدما طمست ملامح الجنود الذين اقتادوا الطفل الجنيدي وعصبوا عينيه بمنديل العار. القدس خيمة العرب، تحلّ دائماً جمرة في القلب. وبعد قرار ظالم يقضي بإعلانها عاصمة إسرائيل، لا شك أنها ستكون حاضرة في أعمال فنية وتشكيلية مقبلة كنوع من المقاومة ضدّ كلّ من يحاول إخفاء عروبتها وأصالتها.
مشاركة :