محمد صنقور بوصفه رائدًا للمعرفة في المملكة..

  • 12/23/2017
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

في حياة كل إنسان قامات ورموز وأشخاص أثروا في تكوينه الذاتي والثقافي والفكري والإنساني، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، سواء كانوا أحياءً أو أمواتا، سواء كانوا في موطنه أو خارجه، سواء كانوا عبر صفحات كتاب أو كتب أو عبر تواصل حي وملموس.. من بين من أثروا في حياتي الثقافية وأثروها بغزير ثقافتهم وبفريد سلوكهم الإنساني النبيل، الأستاذ الكبير الراحل محمد صنقور مدير إدارة المكتبات العامة بوزارة التربية والتعليم سابقًا، هذا الإنسان الذي ظل يتعاطى الثقافة الإنسانية حتى آخر لحظة في حياته التي غادرتنا بغتة بفعل حادث أليم، إذ كلما يلتقيني وهو يزاول رياضة المشي التلقائية في حياته اليومية لقضاء بعض أموره الخاصة أو العائلية في مدينة عيسى، يسألني وبود جميل يأخذه إلى حيث عهد معرفته بي في عام 71 وهو يشد على يدي بيده الحنونة التي تداعب فيها أنامله ظاهر كفي برفق أبوي حميم: «شاخبارك يا ولدي؟ شاخبار القراءة والكتابة؟» ثم يختتم حديثه وهو يشد على يدي برفق أكثر: «أنا أتابعك .. واصل»، وكما لو أنه بذلك الرفق والحنو ينبهني إلى ضرورة وأهمية الكتابة والقراءة وعدم التخلي عنهما باعتبارهما ركيزتين أساسيتين في حياته وفي حياة كل إنسان.. كان أول لقاء لي بأستاذي الكبير في عام 71، وذلك بعد أن نلت شرف الحصول على بطاقة اشتراك لاستعارة الكتب من المكتبة المتجولة التي كانت عبارة عن «ميني باص» يحمل في حوزته كنوز المعرفة، وقد نلتها من أستاذي القدير مطر يوسف البوبشيت أحد أهم الرياضيين المثقفين في الرفاعين الغربي والشرقي لكوني أحد الطلبة المهتمين آنذاك بالثقافة والقراءة في حقول الأدب والفن، ولكوني أحد من تنطبق عليهم شروط الحصول على شرف البطاقة، إذ كانت تمنح للطلبة السبعة الأوائل في المرحلة الإعدادية بالمدرسة ، ومن حسن حظي كنت من أوائل من حظوا باستعارة كتاب من المكتبة المتنقلة في يومها الأول، وكان عصر يوم ثلثاء، تكرر بعدها كل أسبوع كموعد لاستعارة الكتب. وكانت المكتبة المتنقلة تحط رحالها المعرفي في موقع مكتبة الرفاع العامة، تحديدًا بالقرب من ملعب نادي الرفاع الشرقي القديم، وكان أول كتاب أستعيره من هذه المكتبة، كان رواية «نادية» للروائي المصري الراحل يوسف السباعي، وكنت قد تسلمته من أستاذي الكبير محمد صنقور الذي كان برفقته الأستاذ ابراهيم ضيف صاحب النظارة السوداء الداكنة التي كان يطل من خلف زجاجها على عناوين الكتب التي يسلمها الراغبين في استعارتها، ولا أخفي سراً، فإنني بسبب هذه النظارة السوداء التي أثارت فضولي، استعرت يومًا رواية «النظارة السوداء» لمؤلفها الراحل إحسان عبدالقدوس، وبالرغم من حجم الرواية الكبير إلا أنني أنهيت قراءة الرواية بسرعة ، كنت لا أفارق أحداثها لحظة وكما لو أنها أصبحت شغلي الشاغل في حياتي اليومية، وشعرت بأن يوم الثلاثاء الذي سوف يأتي بعيدا جدا جدا.. وعندما أقبل يوم الثلثاء السعيد، كنت بانتظار قافلة المعرفة قبل أن تصل إلى موقعها المحبب والأثير بالنسبة لي، خاصة وأنه أصبح فيما بعد، الموقع الذي دشنت عليه مكتبة الرفاع العامة، وعندما وصلت الغافلة، كنت أول من يدس نهمه في محتوياتها المتنوعة والرفيعة، ليقابلني أستاذي صنقور وأنا أسلمه رواية (نادية) بسؤاله المحفز: هل أعجبتك الرواية؟ أجبته بنعم ليسلمني بعدها الجزء الثاني منها، وهو يقول لي: أكمل الرواية، ولأبوح له برغبتي في استعارة أكثر من كتاب في الأسبوع، ليتفحص فضولي من خلف نظارته الطبية الدقيقة والسميكة بارتياح وهو يقول لي: لا مانع إذا كنت تستطيع فعل ذلك، وأذكر أنه انتقى لي بنفسه كتاب (الأغاني لأبي فرج الاصفهاني) بجانب الرواية، وكان الكتاب حينها نموذجًا آخر يختلف كلية عن (مشوقات) الرواية، وأذكر أنه قال لي: ضاعف جهدك يا ولدي، وبإصرار قرأته من باب المعرفة بعلم وبفن آخرين.. في هذا الأسبوع امتلأت أيامي أدبا ومعرفة، ولم أشعر بأن في أيامه فراغًا كالذي شعرت به في أسبوعي الأول.. في الأسبوع الذي تلاه، أبدى أستاذي اهتمامًا أكبر بي، ثم سألني: هل استطعت وأنت في هذا العمر استيعاب ما احتواه كتاب (الأغاني) من معرفة وتعقيد؟ أجبته: بعض الشيء، ثم سألني: هل كنت تقرأ قبل وصول مكتبتنا المتنقلة إلى الرفاع؟ أجبته وكان الأستاذ ابراهيم ضيف منشغلاً بتوزيع بعض الكتب على الراغبين في استعارتها: نعم.. كنت أقرأ وأحيانًا أُجبر على القراءة، كنت أتسلل عندما كنت طالبًا بالابتدائية إلى مكتبة خالي رحمه الله مبارك الحمدان وهي أول مكتبة في الرفاعين، وأسرق بعض المجلات منها لأقرأها وبعد أن أنهيها أسترجعها إلى مكتبته دون أن يشعر بي، وكان أستاذي الودود رحمه الله الشيخ حسن بن سلمان بن حمود آل خليفة، وكان حينها مدرسًا متميزًا لمادتي اللغة العربية والدين، وبعدها مديرًا لإدارة التمليك بوزارة الإسكان، وكان بيت عائلته بالجوار من بيتنا، يُحكم عليّ غرفته جيدًا وينثر الكتب والمجلات الثمينة الموجودة بحوزتها أمامي ويأمرني بالقراءة، وبعد أن أتنقل بين هذه الكتب والمجلات وأرضي شغفي بها، يعود ليفتح الباب عليّ وليسألني: ما الذي أعجبك منها؟ وعندما أشير إلى بعضها، يختار منها ما ينبغي أن أقرؤه في الطابور الصباحي بمدرسة الرفاع الشرقي الابتدائية، وكان مديرها آنذاك الأستاذ الكبير فالح العبدالله رحمة الله عليه وغفرانه الذي أسس لأول مدرسة في الرفاعين والذي تعلم من تحت معطفه كل أبناء الرفاع تقريباً، والذي يستحق فعلاً أن تؤسس مدرسة في الرفاع تحمل اسمه الفارع المهيب كقامته، وبجانب خالي والشيخ حسن، كان بجوار بيتنا بيت بائع الحلوى ومعلم القرآن السيد الذهب وهو من أصول عمانية، كلفه والدي رحمه الله بتعليمي وتحفيظي القرآن الكريم، فختمته مبكراً، وكان في هذا البيت ابن أخيه الشاب حفيظ الذهب، ذلك الشاب الولوع بالشعر وبالذات شعر عنترة ابن شداد، كان يدعونا ونحن أطفال إلى بيتهم ويقرأ أمامنا قصائد عنترة وحكايته الغرامية مع عبلة، ثم يدعونا لقراءتها وتمثيلها، وكان يشجعنا دون أن ندرك حينها ذلك، على القراءة والتمثيل معاً، كما ذكرت له بعدما اشتد ولعي بالقراءة وأنا في السادس ابتدائي، كيف سطوت على رواية (أمي) للكاتب الروسي العظيم مكسيم جوركي، التي أهدتها إحدى المعلمات لإحدى شقيقاتي، وكيف اشتعلت روحي ومخيلتي حبًا وشغفًا وأنا أستقصي أحداثها (الكبيرة) علي آنذاك وأنا في هذا العمر .. كان الأستاذ الراحل محمد صنقور يصغي إليَّ باهتمام كبير، وأنا أسرد له هذه الذاكرة التي هيأت لي فسحة التعرف عليه وعلى كنزه المعرفي الغزير والمنظم، وبعد أن توقفت عن السرد، دعاني للحضور إلى مكتبه بمكتبة المنامة العامة، المكتبة المركزية التي منها توزع الكتب على مختلف مناطق المملكة، وتغذي كل العقول والأرواح العطشى للمعرفة، وهي مهمة لعمري صعبة وكبيرة تستحق الوقوف طويلاً طويلاً، ولعل فكرة أستاذنا الراحل صنقور بتدشين المكتبة المتنقلة التي تجوب مختلف مناطق البحرين، وتنفيذها على صعيد الواقع، هي فكرة تستحق منا التأمل والدراسة المستفيضة، فقد لعبت هذه المكتبة دورًا كبيرًا في تنوير عقول أبناء المملكة ومهدت أمامهم سبل التواصل الفكري والثقافي والمعرفي، وشكلت وعيًا جديدًا تجسد في خلق مفكرين ومبدعين ومثقفين وفنانين لا يمكن أن تنسى يومًا من كان محفزها الأول للتعالق مع هذا الوعي.. المهم .. قصدت أستاذنا الراحل صنقور إلى مكتبه الصغير والحميم بمكتبة المنامة، والذي تخيلت حينها بأنه في وسط زحامه المعرفي أشبه بالجاحظ بين كتبه، فخشيت من سقوطها عليه وهو الرقيق في بنيته الجسدية والنفسية، فاستقبلني استقبالاً أبويًا حنونًا، وأجلسني بجواره، ثم أخذني إلى فروع المعرفة بالمكتبة، وبعدها قدم لي بطاقة إعارة أخرى لمكتبة المنامة، فاتحًا المجال أمامي للحضور إلى المكتبة واستعارة ما أرغب، والقراءة في جو أكثر ملاءمة وأكثر هدوءً، وأكثر إمكانية لتغيير الكتاب متى شئت.. بعدها توثقت علاقتي أكثر بأستاذي الراحل صنقور وبالمكتبة العامة، وأصبحت على تواصل حميمي معه ومعها حتى بعد أن عينت في وزارة التربية والتعليم، وكانت المكتبة حينها بالقرب من مبنى وزارة التربية والتعليم الذي أعمل فيه.. ولما عرف اهتمامي أكثر بالفن، دعاني إلى المكتبة العامة لتدشين المكتبة الموسيقية الكلاسيكية التي كان هو والأستاذ ماجد الجشي وزير الأشغال السابق لهما بادرة التأسيس لها، كما كان لأستاذي صنقور الفضل في تأسيس معهد موسيقي صغير درّس فيه عدد من الفنانين من بينهم الموسيقار الراحل مجيد مرهون.. حينها تعرفت أكثر على مصدر الهدوء والسكينة اللذين يتمتع بهما أستاذي الراحل صنقور، فقد كان مستمعًا جيدًا للموسيقى الكلاسيكية الرفيعة، ومثقفًا فيها، ولها علاقة مباشرة بارتباطه وعشقه للكتاب.. مثل هذا الإنسان الرفيع والرائع والوديع والموسوعي دون أن يعلن أو يدعي، والذي لا يمكن أن ينساه من كان له علاقة بالكتاب وبالثقافة في مملكة البحرين، آن الأوان لأن تؤسس في مملكة البحرين مكتبة أو قاعة ثقافية تحمل اسمه (مكتبة محمد صنقور).. رحمك الله وجعلنا ممن يحفظ الود لجميل وكبير دورك العظيم والرائد في نشر المعرفة في كل أرجاء المملكة...

مشاركة :