«الروائي» بوصفه منتجاً للمعرفة

  • 8/25/2015
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

لم يعد الكاتب أو الأديب أو الفنان كاتبا للتعبير عن الأحاسيس والمشاعر أو لوصف الواقع فحسب، ولم تعد القصة أو الرواية أو المسرحية وسيلة للترفيه والتسلية وتزجية الوقت فقط، بل أصبح الروائي اليوم منتجًا للمعرفة والبحث العلمي والمعرفي المرادف للرواية جزءا مهما وأصيلا منها. ففي رواية "العطر" للروائي باتريك زوسكيند يأخذنا المؤلف في رحلة علمية معرفية في الروائح والعطور وكيفية إنتاجها وتصنيعها؛ فيضرب لنا بذلك أروع الأمثلة عن كيف يمكن أن يكون الكاتب متمكنا من المادة والموضوع الذي يكتب فيه. فمن يريد أن يكتب رواية عن شخص "ميكانيكي" مثلا لا بد أن يكون ملما أولا بالميكانيكا وعناصرها وأجزاء المكائن وأنواعها وكل ما يتعلق بهذا المجال من معلومات وأسرار، كذلك حين يكتب عن "رسام" أو "موسيقي" أو خلافه، أو حين يكتب رواية تاريخية حدثت في القرن الثالث الهجري مثلا في بغداد أو دمشق فلابد أن يكون الروائي ملما بكل ما يخص ذلك الزمن من معلومات وأن ينقلنا إلى التاريخ لا أن يرويه من وجهة نظر الإنسان المعاصر. كذلك حين يتحدث عن "مترجم" لا بد أن يعرف الكثير من مهارات الترجمة ومسائلها وحين يكتب عن أثر تاريخي لا بد أن يعرف ويخبر بالكثير عنه وهكذا. هذا الدرس هو من أعمق وأهم الدروس التي يمكن أن يتعلمها القارئ من "باتريك زوسكيند" فحين تقرأ رواية "العطر" تشعر بأنه صانع عطور في لباس روائي، وحين تقرأ رواية "الحمامة" تشعر أنه رجل أمن وسلامة في بذلة روائي، أما حين تقرأ مسرحية "الكونتراباص" فتشعر أنه عازف وموسيقي في رداء مسرحي. يضرب زوسكيند أروع الأمثلة عن تمكن الكاتب من مادته والعناء في البحث فيها فيقدم خلال "الكونتراباص" سيرة ذاتية لهذه الآلة ويقدم أثناء ذلك أغزر المعلومات عن تاريخها وتاريخ الموسيقيين وأسماءهم والنوتات الموسيقية وما إلى ذلك. مكتفيا بذلك بشخصية واحدة يروي من خلالها كل هذا الكم من المعلومات التي لم تكن هي الهدف والغاية وإنما تم توظيفها لخدمة النص. شخصية واحدة هي المتحدث أثناء المسرحية هذا إذا غضضنا النظر عن كون "الكونتراباص" شخصية أخرى في العمل. يقوم "عازف الكونتراباص" (الشخصية الوحيدة في العمل) بالعديد من الإسقاطات والتساؤلات خلال العمل فهو ليس ناقلا للمعلومة فقط بل هو مفكر يتساءل ويفكر بصوت مسموع على المسرح، يصرخ ويشرب ويغضب ويثير حنقه كموسيقي صوت الصخب والضوضاء القادم من الشارع والذي يعبر إليه من خلال النافذة. كما يسقط حال "عازف الكونتراباص" وموقعه في "الأوركسترا" شديدة التنظيم وشديدة الطبقية بحال الأفراد في المجتمع؛ فالكثير من أفراد المجتمع هم أشخاص مهمشون يقفون في آخر المسرح لا تكاد تراهم بالرغم من أن دورهم أساسي ورئيسي وقد لا يتم العمل إلا بوجودهم. ويتساءل خلال حديثه عن الموسيقى عن عدم وجود موسيقيات نساء هل الرغم من كثرتهن كمغنيات لكن كمؤلفات موسيقيات يقول :" هل تعرفون مؤلفة موسيقية واحدة عليها القيمة؟ واحدة فقط؟ أترون؟ هل فكرتم في الموضوع من قبل؟ عليكم أن تفكروا في الموضوع بجدية." ونحن بدورنا هنا نتساءل أيضا مع كثرة المغنيات في وسطنا بمختلف مستوياتهن لماذا لم نسمع يوما بملحنة بارعة؟. هل الموسيقى عمل ذكوري؟.

مشاركة :