لو كتبنا مئات المقالات ومثلها من القصائد والروايات والمسرحيات والأناشيد، والبيانات وبرقيات التنديد والاستنكار، فهل سيقرأها أو يستمع إليها ترامب؟ بل هل سيطلع عليها، ولو اطلع عليها، هل سيحسب لها حسابا؟العرب حميد سعيد [نُشر في 2017/12/26، العدد: 10852، ص(14)] كتب إليّ أحد الأصدقاء، ليلة أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب، عن قرار إدارته بنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، ماذا كتبت وما ذا تنوي أن تكتب؟ ويبدو لي أن صديقي كان في حيرة من أمره، فوجّه إليّ سؤاله هذا، ولأنني لم أفعل شيئاً، بل كنت أتابع ردود الأفعال، فأكتشف أنها مكررة ومألوفة ومتوقعة، وهي لا تتجاوز أن تكون مجرد ردود أفعال. ولأنني أعرف أنني لا أستطيع أن أفعل شيئاً، فقد أجبته بكلمة واحدة هي، تحياتي، ويبدو لي أنه أدرك ما أنا فيه، فلم يكتب إلي ثانية، وخلال متابعتي ردود الأفعال استمعت إلى شيخ فلسطيني من أبناء مدينة القدس يقول ساخراً، ماذا حدث وماذا يغيّر قرار ترامب؟ القدس مدينة محتلة، ونحن نعيش تحت وطأة الاحتلال؟ وأدركت أنه يريد القول “لو حررت القدس من الاحتلال، لما كان لهذا القرار العدواني أي أهمية، ولن تكون”. في الصباح توجهت إلى المقهى، كما أفعل في كل يوم، والتقيت بمن ألتقي بهم في معظم الأيام، وكل منهم يتحدث عمّا سمع من ردود أفعال وهي ردود الأفعال ذاتها التي استمعت إليها، أما أنا فقد اكتفيت بالصمت، ولم أشارك في كل ما كان يقال، حتى ولو من باب المجاملة، وحين غادرت المقهى، قال لي أحد العاملين فيها، وهو شاب مصري متعلم، لقد فهمت من صمتك، أكثر مما فهمت من أحاديث أصدقائك. في ما مضى من السنين، وكلما حدث حادث من هذا القبيل، أسارع إلى كتابة مقالة أو إلى كتابة قصيدة، ظاناً أنني قمت بواجبي القومي تجاه فلسطين، وقد أشارك في إصدار بيان أو رسالة استنكار بالتوقيع عليها، وما ترددت يوماً عن المشاركة في تجمع أو تظاهرة، في ظل موافقة السلطة حيناً، أو ضد إرادة السلطة، على امتداد المراحل السياسية في بلادي ومتغيراتها، فأحقق رضاً عن نفسي، وأعدّ ما قمت بأنه يجعلنا أكثر قرباً إلى فلسطين المحررة، وقد أبالغ في حالة الرضا عن النفس، فأعدّ ما قمت به عملاً نضالياً، لا يقوم به إلا المناضلون المضحون، لكن اكتشفت أن كل ما كتبنا، بل كل ما كنا نحسبه نضالاً، لم يفعل شيئاً، كما أن كل ما فعله أعداء فلسطين، لم يغير حقيقتها، لأنهم لم يغيروا إرادة إنسانها ولن يقدروا على تغييرها. لذا حين أقول، لم أفعل شيئاً في مواجهة هذا القرار العدواني، أعني لم أفعل ما كنت أفعله من قبل، أما بعض الذين رفعوا أصواتهم في مواجهة هذا القرار، فقد شهدتهم، نعم شهدتهم واستمعت إليهم وهم يحتفلون باحتلال العراق، ويعدونه تحريرا! وفيهم من مهد لهذا الاحتلال وقدم له خدمات من كل نوع، ومن ثم تعاون معه وجند طاقاته لخدمته. وهنا أتساءل، هل أن أميركا التي نقلت سفارتها من تل أبيب إلى القدس، هي غير أميركا التي احتلت العراق ودمرته وقدمته هدية إلى النظام الإيراني وعملائه، وأخرجته من معادلة الصراع العربي الصهيوني، لنعترض على الأولى ونؤيد الثانية؟ وهل كان فينا من يتوقع أن الإدارة الأميركية ستتخذ موقفاً غير هذا الموقف؟ بل ألم يكن هذا القرار قد اتخذ من قبل المشرعين الأميركيين قبل أن ينقله ترامب وإدارته إلى حيز التحقيق، ثم ألم يكن هذا الموقف من أبرز وعود ترامب في حملته الانتخابية؟ ولو كتبنا مئات المقالات ومثلها من القصائد والروايات والمسرحيات والأناشيد، والبيانات وبرقيات التنديد والاستنكار، فهل سيقرأها أو يستمع إليها ترامب؟ بل هل سيطلع عليها، ولو اطلع عليها، هل سيحسب لها حسابا؟ لذا أتمنى أن اسمع وأرى، ماذا فعلنا، أشخاصاً ومؤسسات وحكومات، وليس ماذا قلنا وماذا كتبنا، على أن يكون الفعل محسوباً ويتوفر على قدرة التأثير والتغيير. أما فلسطين فلا خوف عليها، وأما القدس فلن يغيّر جوهرَها هذا القرارُ العدواني، لأن الرهان على الشعب الفلسطيني الصامد المضحي وعلى محيطه القومي. كاتب عراقيحميد سعيد
مشاركة :