ينقلك معرض «أضواء مراوغة» في «بيت بيروت» إلى عالم مختلف تحكمه وقفة مع الذات التي تفرضها أعماله المعروضة على زائره. 9 تركيبات أسطوانية الشكل في قلب كل منها لوحة مغطاة من الخارج بصورة فوتوغرافية تعكس جماليتها مطبوعة على قماش شفاف ترتديه كل أسطوانة، على حدة، تؤلّف مكنونات هذا المعرض الذي يجمع تحت سقفه فنون الرسم والتصوير الفوتوغرافي والهندسة.ومجرد التجول بين تلك الأسطوانات الموزعة على غرف الطابق الأخير من «بيت بيروت» الشاهد الحي على حرب شوارع دامية، ستعرف أنّك أمام خيارين لا ثالث لهما، إمّا دخولها لتكتشف حقيقة الضوء المتسلل منها، وإمّا البقاء خارجها في كنف أضواء خافتة أقرب إلى العتمة منها إلى النور.فكما الرسامة عفاف زريق كذلك المصور الفوتوغرافي نويل نصر والمهندس المعماري رامي صعب وجدوا في فكرة هذا المعرض الذي يجمعهم، ترجمة واضحة لعلاقة وطيدة تتشابك فيها فنونهم الثلاثة. «إنّها بمثابة رسالة سلام بعيداً عن أجواء العنف التي نعيشها في منطقتنا وحتى في العالم أجمع». تقول عفاف زريق المحور الرئيس لهذا المعرض في حديث لـ«الشرق الأوسط». فلوحاتها المرسومة بالفحم تارة، وبالزيت تارة أخرى، سمحت لهذا الثلاثي بالالتقاء حول نقطة واحدة، ألا وهي الفن الحديث. وصور نويل تدخل إلى طبقات وأعماق اللوحة المرسومة، فيما ينجح رامي في إعطائها أبعاداً فكرية وفلسفية تدعو الزائر إلى البحث عن القاسم المشترك بين الفنون الثلاثة المذكورة، فيصبح مساهماً مباشراً في تفتحها بدل أن يكون مجرد متلق لها: «هي بمثابة كيانات تضع مشاهدها في مواجهة تجربة الرسم وتغمسه في فهم القصة الشخصية والإنسانية وراء كل لوحة. ومن خلال عملية الاستكشاف هذه يزاح الستار ببطء عنها» توضح زريق في سياق حديثها.الرسامة اللبنانية التي عاشت في أميركا لفترة طويلة إبان اندلاع الحرب اللبنانية، وعادت إليه عام 2006، كانت تطرح أسئلة كثيرة على نفسها كلما تجولت في شوارع بيروت التي تبدلت تماماً، فكانت تلفتها مآسي الناس والخسارات التي تكبدتها بفعل حرب الآخرين على أرضها. «كنت أتساءل ما الذي أصبحنا عليه؟ أين إنسانيتنا؟ لماذا انغمسنا بلعبة الآخرين؟ ومع ريشتي حاولت ترجمة تساؤلاتي هذه. ولذلك يلاحظ الزائر حالة من التناقض في لوحاتي تجمع ما بين الحزن والفرح، الإحباط والأمل، وغيرها من الأحاسيس التي تنتابنا عادة في يومياتنا وأيضاً عندما نفكر في ماضينا».رسومات تنقلنا إلى الطبيعة تارة وإلى حقيقة الإنسان تارة أخرى، قدمتها عفاف زريق بألوانها القاتمة والزاهية والرمادية، لتأخذك في حالتي تأمل وهدوء، ولتقاطعك ريشتها التي اعتمدت أحيانا كثيرة تقنية ثلاثية الأبعاد في غموضها.نجح المصور الفوتوغرافي نويل نصر بإعطاء لوحات عفاف زريق بعداً فنياً قلّما نطالعه في معارض مشابهة، فيما بنى المهندس المعماري رامي صعب حالة انخطاف للذات مستثمراً أشكال أسطواناتنه في خدمة موضوعات تلك اللوحات.فعفاف زريق حاكت بفرشاتها الشجاعة والضعف، ونادت بقلم الرصاص الورد الناعم بغطاء من الطبشور، وحرّكت شخصيات لوحاتها المبهمة بإيقاع يلفه الحب وبمساحات بيضاء تقطر حناناً.وعلى الرغم من أنّ هدف المعرض الرئيس هو إبراز تلك العلاقة التقليدية بين الفنون الثلاثة (الرسم والتصوير والهندسة)، إلا أنه يترك لدى زائره ثقافة فنية مقرونة بالخبرة العلمية والتقنية المتأصلة والمغلفة بالخيال والحلم متحدية مشاهدها بفك رموز لوحات عفاف زريق السريالية.ولعل إقامة المعرض في «بيت بيروت» ساهم بإكمال مشهديته بشكل عام، فهذا المكان الذي سكنه القناصون أيام الحرب ليصطادوا من نوافذه إخوانهم وأصدقاءهم برصاص الغدر، كما اختبأ فيه محاربون تائهون وراء متاريس مشردة بعد أن هربوا من نور السلام إلى عتمة الحرب. فجاءت لوحات عفاف زريف وصور نويل نصر وأسطوانات رامي صعب لتولدّ مساحة ضوئية في هذا البيت الذي انتُشل من مآسي الماضي، فيتلمسها ضيوفه تلقائياً بجولتهم فيه على أنغام موسيقى أوبرالية لفرانز شوبرت الذي ينقلهم بصوته إلى أرقى حالات محاسبة الذات وخلع العادية التي تلاحقهم في تصرفاتهم اليومية، ليبدأوا معها رحلة سلام ومصالحة مع الذات.
مشاركة :