موقع روسيا في عالم جديد متعدّد الأقطاب

  • 12/27/2017
  • 00:00
  • 7
  • 0
  • 0
news-picture

كان تعدّد الأقطاب، إلى حد كبير، هدف السياسة الروسية. فهي رأت أنه نقيض القطب الواحد. لكننا نسينا أن تعدد الأقطاب ليس نظاماً، بل هو فوضى، وهو مرحلة انتقالية. فالعالم المتعدد القطب يقتضي التزام قواعد محددة وتوازنات جديدة لكنها غير متاحة بَعد، لذا تقتضي الأمور العودة إلى القواعد القديمة. اليوم نحن أمام انهيار متزامن للنظم العالمية. فالهيمنة الغربية التي بدأت قبل خمسمئة عام على وشك الانتهاء. وشيئاً فشيئاً يتداعى ما يسمى النظام العالمي الليبرالي، وينهار معه العالم الثنائي القطب. في هذه الحال، وللمفارقة فإن الأسلحة النووية تؤدي دور عامل الاستقرار الرئيس في العلاقات الدولية. وهذا بالغ الأهمية على رغم ضخامة العواقب. وليست الفوضى وغياب الحوار بين القوى العالمية، ديدن العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة فحسب، بل هي السمة البارزة في علاقات الدول الأخرى. والفوضى ولفظ الحوار يجعلان عالمنا أكثر خطورة مما كان عليه في الحرب الباردة. وقد تستمر هذه المرحلة الانتقالية مدة طويلة جداً. وفي العقدين المقبلين، سيبرز في العالم نظام آخر ركناه مركزان كبيران: واحد أوروبي آسيوي بقيادة الصين، ومعها روسيا وإيران والهند وكوريا الجنوبية واليابان، والمركز الآخر سيتمحور حول الولايات المتحدة. هذا إذا لم تقع حرب كبرى تُنهي التاريخ. والحق يُقال أن العالم الخالي من السلاح النووي هو حلم جميل للإنسانيين ودعاة عالم المثل، وفكرة مثيرة للاشمئزاز في عين الذين يسعون إلى جني ثمار تفوقهم الاقتصادي والعسكري نفوذاً سياسياً. والفائدة من «الصفر النووي» يرتجيها من لا يملك الأموال والأسلحة غير النووية. ولا يسعنا أن نمنع أحداً من الحلم بعالم خال من الأسلحة النووية، لكن من الأجدى أن نحلم بعالم من غير أسلحة على الإطلاق، وأن يُرسى سلام نسبي. لكن الناس لا تعيش في عالم المثل بَعد وليسوا مثاليين. لذا، فمن الأفضل كبح جماحهم بمساعدة أسلحة تدميرية.   أوراسيا الكبرى سقطت أوروبا ضحية نجاحها. وفي حين يبدو أنها لن تكون مركزاً عالمياً في المستقبل، على رغم التجمّع الكبير فيها للرساميل والسكان والأسواق. ويقتضي ارتقاء أوروبا إلى مصاف قطب عالمي الخروج من النظام الرائع الذي أنشأته لنفسها. فالنظام الأوروبي هو نظام سلمي- توفيقي، ونظام قائم على ما يسمى عوامل القوّة الناعمة. هذه السمة، مع الأسف، لا تتكيف مع العالم المتعدد القطب. وأوروبا أمام خيار الانضمام إلى بعض هذه الأقطاب. ويرى الأوروبيون أن الانضمام إلى القطب الأميركي خارج المتناول. فالأميركيون لا يرغبون في حمايتهم ولا في إنفاق الأموال على مثل هذه الحماية. وعليه، لا يبقى أمام الأوروبيين سوى الانضمام إلى المركز الأوراسي أو إنشاء قطب خاص بهم. لكن هذا يحتاج إلى قوات مسلحة حقيقية وسياسة أمنية قادرة على ضمان مصالحـــهم في العالم وحماية المشروع الأوروبي، وهو أمر يتناقض مع منطق المشروع الأوروبي. وثمة خيار آخر تقترحه روسيا والصين، هو إنشاء أوراسيا الكبرى، وحيّز الأمن المشترك، والتعاون المشترك هو عالم قد تلعب فيه أوروبا دوراً وازناً. فهي تتمتع بإمكانات اقتصادية واجتماعية وأخلاقية ضخمة ومتراكمة. ولا ندري مدى احتمال نجاح المشروع الأوراسي. لكن يسعدنا أن نسبة التطابق بين فكرة أوراسيا بصيغتها الروسية ومشروع «طريق الحرير» الصينية هي 95 المئة. والحاجة مُلحّة إلى صيغة جديدة لتطوّر السياسة الدولية. فمع تعدد الأقطاب، يتقاتل الجميع ويتواجهون، ويصبح العالم أقل استقراراً وأكثر خطراً. وأصبحت وسائل التدمير أكثر وقوتها أكبر. إلى ذلك، ثمة عدد كبير من الخيارات لاستخدام القوة خارج نطاق مؤسسات الدولة أو بالتوازي مع الدولة. لذا، يجب خلق نظام مختلف، وهذا يعتمد على عوامل كثيرة، منها في المقام الأول، الإرادة السياسية الروسية والصينية، واحتمال أن يشمل هذا المشروع بلداناً مثل الهند وإيران وكوريا واليابان وأوروبا.   العلاقات الصينية- الروسية العلاقات الروسية- الصينية هي علاقة تحالف، طبعاً. وهو تحالف عسكري بحكم الأمر الواقع، لكن من دون أي التزامات رسمية. ونتوقع أن تبقى العلاقات الروسية- الصينية قوية خلال العقد القادم. أولاً، وقبل كل شيء، لأن كل منا يحتاج إلى الآخر. ولا شك في أن ثمة اختلالاً اقتصادياً بين الصين وروسيا. لكن الخلل هذا تقوِّمه، إلى حد كبير، حاجة الأولى (الصين) إلى الثانية (روسيا) في مواجهة تبعات الغباء الأميركي المتزايد. وإلى الحاجة هذه إلى روسيا، تجبه بكين صعوبات، وتتعثر في التحوّل قوةً عالمية. فهي تفتقر إلى خبرة في السياسة العالمية. والأهم من هذا العامل هو رفض دول وثقافات سياسية في محيط الصين الهيمنة الصينية. كما أنّ روسيا لن تصدع بهيمنة أحد.   روسيا في الشرق الأوسط وإلى اليوم، سياسة روسيا في الشرق الأوسط غير مكلفة ومربحة للغاية. لكن المشكلة هي تعذر إحراز إنجاز دائم في الشرق الأوسط. وساهمت عوامل- منها إخفاق عملية التحديث في بعض الدول الإسلامية والعربية والنمو السكاني المتفجّر والتغيرات المناخية التي أدت إلى خفض كمية المياه والغذاء- في جعل هذه المنطقة في مهب الاضطراب وغياب الاستقرار. والتدخل فيها عسير. لذا، فهي ساحة للمناورة فحسب من غير أي نفوذ دائم. وحريّ بنا أن نُدرك أن الاستقرار متعذّر في هذه المنطقة. ولا شك في أننا ندرك ذلك، لكن، طبعاً، لا يزال منافسونا الجيوسياسيون يسعون إلى توريطنا هناك حتى نتعثر. أمّا هرب الولايات المتحدة وانسحابها من المنطقة، فيعود إلى سببين رئيسين، أولهما أنّها صارت أقل اعتماداً على نفط الشرق الأوسط، والثاني إدراك واشنطن أن التورّط العميق فيها غير مجد ومكلف للغاية. لا حاجة لنا بالتربّع محل الولايات المتحدة عبر مرابطة كثيفة، بل علينا أن نناور لجني الفوائد الاقتصادية. وإلى اليوم، على خلاف الاتحاد السوفياتي، نكاد لا ننفق أموالاً هناك.   الغرب وروسيا تعود العدوانية الغربية تجاه روسيا غالباً، إلى أسباب داخلية في المجتمعات الغربية ذاتها. ولا يخفى أن التعامل مع روسيا بعيد من العدوانية خارج الغرب. وأسباب هذه العلاقة العدوانيـــة بين أوروبا وروسيا هي: أولاً، خسارة أوروبا التفوّق العسكري بسبب الأسلحة النووية الروسية. ثانياً، ظهور مراكز جديدة للسلطة والمنافسة الشرسة على الفطيرة الاقتصادية العالمية. ثالثاً، أن الصدمة الكبرى للنخب الأوروبية تفوق صدمة النخب الأميركية، فالنخب الأوروبية أخفقت على خلاف حسبانها بعد الانتصار الذي بدا لها مبهراً عام 1991، لكن العالم هذا (عالم ما بعد أفول الاتحاد السوفياتي) سرعان ما تداعى فجأة إثر سلسلة هزائم سيـــاسية وعســكرية أميركية، إذ تورطت واشنطن في صراعات عسكرية بسبب الغباء والغطرسة، كما دخلت أوروبا نفسها في أزمة. ورابعاً، وهو السبب الأبرز، ضعف المؤسسات الديموقراطية الحديثة. وخامساً، بحث أوروبا عن كبش فداء لتسويغ الإخفاق في جبه التحديات.   سياسة الدولة الروسية لا أعتقد أن سياسة الدولة في روسيا مشخصنة. والمشكلة الأبرز هي غياب سياسة الدولة في روسيا طوال أعوام. لكن اليوم، تبني الدولة الروسية قدراتها تدريجاً. ويؤيد شطر راجح من النخب والسكان السياسة الخارجية الروسية. ويُخرج الغرب صورة بوتين على أنه شرير، لكن الرئيس الروسي لا ينتهج هذه السياسة في معزل عن شعبه. فـ85 في المئة من عامة الروس يدعمونه، وكذلك 90 في المئة من النخب. وهذه الأخيرة أنواع: أوساط يكتب أفرادها على مواقع التواصل الاجتماعي، وهي النخبة الأدبية والثقافية. وثمة نخبة أمنية لا تكتب الآراء، وهي غير مرئية. وثمة كذلك نخب أنقذت البلاد بعدما أوشكت على الغرق قبل عشرين عاماً. والحق يقال إن دولاً غير غربية، وهي المركز المستقبلي للعالم، تدعم السياسة الخارجية الروسية. وحريّ بنا ألا ننسى أن نواة روسيا فكرة وطنية قائمة على السيادة والدفاع، أو الدفاع عن السيادة.   العقوبات تندرج العقوبات على روسيا في سياق اتجاه عام ينـــحو إلى تسيـــيس الاقتصاد العالمي، وهو وثيق الارتباط بتفاقم الصراع وتراجع موقف الغرب. وهذه العقوبات، سواء رُفع بعضها أم لا، هي آخر أوراق شركائنا- الخصوم الذين لم يخـــسروا مكانتهم النافذة في الاقتصاد وقطاع المعلومات. ولعلنا نستطيع التوصل إلى اتفاق مع الأوروبيين يوماً ما. لكن الاتفاق مع أميركا مستحيل. فهيكلية العقوبات هناك والطريقة التي فرضت بها تشير إلى أنها باقية إلى الأبد. لذا، نحتاج إلى التأقلم والتكيّف مع هذه الظروف، وهذا يعني أن الحاجة ماسّة إلى تنويع علاقاتنا: الاستدارة إلى الشرق، وإلى الجنوب، وإلى أميركا اللاتينية، وحتى إلى أوروبا. وإذا عزمت موسكو على أي مشروع كبير، فيجب إشراك الصينيين والكوريين والهنود والأوروبيين، وبأقل قدر ممكن الأميركيين. فهم يستغلون أي دور لهم من أجل الحفاظ على هيمنتهم في النظام المالي العالمي واستخدام الأدوات الاقتصادية في السياسة الخارجية. وهذا الاتجاه سيتعاظم على نحو مطرد في السنوات العشرين المقبلة. وحريّ بنا أن نبرم في آن واحد تحالفات تكنولوجية مع الصين والهند وبلدان أخرى من أجل إرساء أنظمة مالية عدّة تكون أكثر استقلالية من نظيرها الأميركي، أي إنشاء نظيرين أو ثلاثة لنظام سويفت (SWIFT) المصرفي. ويجب أن نبتكر أربع بطاقات مصرفية محلية «مير» بدلاً من واحدة. وهذه مجرد شروط للتفاعل الفعال، أو الفعال نسبياً، مع العالم الخارجي الجديد. والعزلة في العالم الاقتصادي الحديث هي ضرب من الحماقة، وهذا لا يخفى على أحد. فهي تؤدي إلى الموت. وثمة حاجة إلى سياسة اقتصادية (داخلية) وسياسة اقتصادية خارجية تستند إلى فهم واضح للعالم المستقبلي.     * خبير في العلاقات الدولية، عن مجلة «إكسبرت» الروسية، 30/10/2017، إعداد علي شرف الدين.

مشاركة :