عندما يجوب القطري والتركي ذات الإقليم في ذات التوقيت وبذات الاستراتيجيات الاتصالية، فذلك إيذان بمرحلة جديدة برهانات جديدة ولكن على ذات المراهن عليهم.العرب أمين بن مسعود [نُشر في 2017/12/27، العدد: 10853، ص(8)] التوصيف الصحيح للزيارة التي بدأها الثلاثاء الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بأنها محطة ضمن جولة إقليمية في شمال أفريقيا، تفهم دلالاتها وعمقها عبر استكناه مقاصدها من خلال تدبّر ما سبق وما لحق. زيارة أردوغان إلى تونس لا بد أن توضع ضمن سياق تفسيري قوامه جمع تونس بالعاصمتين السابقتين التي قصدهما الرئيس التركي وهما الخرطوم ونجامينا. بطريقة أوضح يكون فهم الزيارة ضمن المقاربة الماكروسكوبية التي تفرد للمحلل السياسي المسافة النقدية السامحة للرؤية الشاملة والمتفحصة. ليست الزيارة فقط إطلالة اقتصادية واستثمارية لدفع العلاقات الثنائية، ففريق أردوغان الذي يطير فوق شمال أفريقيا يضم رئيس الأركان ووزيري الخارجية والدفاع، إضافة إلى 150 رجل أعمال، ما يؤكد مقولة أن وراء الأكمة ما وراءها. لم يكن اختيار السودان كمحطة أولى للجولة الأردوغانية قرارا اعتباطيا، فالانخراط في المجال الحيوي المصري وتسجيل الحضور السياسي والاقتصادي القوي على حدود المحـروسة لم يكن غـائبا عن أردوغان الذي يحسن لعبة تحريك الهوامش لإثارة بلبلة المركز. وكعادة حكومة البشير في الرقص على الحبال الإقليمية استبقت الخرطوم زيـارة أردوغـان بتصريحين في غاية الخطورة ويصبان في المصلحة الاستراتيجية التركية ضدّ القاهرة، حيث صرح وزير الخارجية السوداني إبراهيم غندور رفض بلاده اتفاقية تعيين الحدود بين الرياض والقاهرة الموقعة في 2016 والتي ضمت، حسب قوله، مثلث حلايب إلى مصر. صحيح أن الإعلان السوداني شمل السعودية ومصر بالتحفظ، ولكنه استهدف الأمن المصري في وقت حرج وحساس وفق ساعة القاهرة التي تتحسس استكمال سد النهضة من الجانب الإثيوبي. قبل أن يلقي قائد الدبلوماسية السودانية بقنبلة سياسية ثانية قوامها الموافقة التامة على بناء سد النهضة وعلى نظام الحصص في توزيع المياه بين دول المنبع والمصب على الرغم من الرفض المصري المطلق. في أقل من أسبوع ضغطت الدبلوماسية السودانية على جرح القاهرة غير المندمل وتجاوزت كافة الاتفاقيات والتفاهمات الثنائية في قضايا حيوية ومصيرية، قربانا لرئيس تركي يقدم على بساط الخلافات العربية ويمشي فوق سجاد التباينات الثنائية بين الإخوة الفرقاء. لم تشذ نجامينا عن قاعدة تقديم القرابين السياسية لمسؤول متوج تركيا وعربيا وإسلاميا كـ“نصف رئيس ونصف سلطان”، أغلقت تشاد كافة المدارس الدينية التابعة للزعيم الديني التركي عبدالله غولن وطردت كافة المقربين من الداعية التركي، ولسان حالها يقول “يزع الله بالسلطان ما لا يزع بالقرآن”. ولئن كانت رحلة الخرطوم المراد منها التمكين ما بين أرض الحبشة والسودان والبحر الأحمر، فإن الإطلالة على نجامينا عنوانها الأبرز فتح الجبهة الجنوبية ضد الجيش الليبي في بنغازي واستدرار بوصلة جديدة في الصراع الليبي قوامها ضرب الجيش في معاقله المحصنة ونقل المعركة من الغرب إلى الشرق. ولا ريب أن يتقاطع أكثر من مصدر سياسي وعسكري في القاهرة وبنغازي في توصيف محور الخرطوم- نجامينا بالعمق الاستراتيجي للجماعات المسلحة ذات المنحى الإخواني والتهديد الحيوي لشمال أفريقيا. وفي خضم هذه المشهدية، تصبح إطلالة تونس ذات عنوان سياسي بأن المشروع الإخواني الذي ضعف وتقهقر في أكثر من عاصمة عربية وإسلامية، استجمعت له كافة مقوّمات الاستنهاض ومقدمات العودة. يتحرك أردوغان بين العواصم الأفريقية المحيطة بليبيا، استجلابا لدعم التيارات الإخوانية السياسية منها والعسكرية استعدادا لخوض النزال الجديد الذي سيرتدي لبوس انهيار الوساطة الدولية مع غسان سـلامة، وفشل دول الجوار في التوصل إلى تسوية شاملة في المشهد الليبي. عنوان التحرك الأردوغاني ليبيا، وليست تونس ولا تشاد أو السودان، فالأولى عبر النهضة وبقاياها وقواعدها توفر لحلفائها المظلة السياسية، والثانية توفر لهم التدريب والدعم اللوجستي، والثالثة تؤمن لهم الممر والمنفذ نحو الشرق والصحراء الليبية. يتحرّك أردوغان في شمال أفريقيا، بالتوازي مع أمير قطر تميم بن حمد الذي يطوف حاليا بين بعض عواصم الساحل الأفريقي وغرب القارة، وعندما يجوب القطري والتركي ذات الإقليم في ذات التوقيت وبذات الاستراتيجيات الاتصالية، فذلك إيذان بمرحلة جديدة برهانات جديدة ولكن على ذات المراهن عليهم. كاتب ومحلل سياسي تونسيأمين بن مسعود
مشاركة :