"ما أكثر الكتب التي كتبت عن الحرب! وما أكثر ما صنع بأيدي البشر وعقولهم من سلاح! بحيث أصبحت فكرة القتل شيئاً عادياً، لكنني أكره الحروب، وأكره فكرة أن يمتلك أحد ما الحق في سلب حياة إنسان آخر". حصدت الكاتبة البيلاروسية سفيتلانا ألكسيفيتش جائزة نوبل للآداب لعام 2015. فور إعلان الأكاديمية السويدية بفوز المرشحة ألكسيفيتش سرعان ما دار جدل واسع حول انحراف الجائزة لتشمل الصحافة والآداب المتفرعة منها، غير أن فوز هذه الصحفية فتح للقرّاء فرصة التعرف على تجربة جديدة في استثمار الكوارث والحروب وإعادة إنتاجها في نص واقعي كما في أعمال "فتيان الزنك"، و"ليس للحرب وجه أنثوي"، و"صلاة تشرنوبل". ولدت ألكسيفيتش في مدينة ستانيسلافوف، في أوكرانيا السوفييتية عام 1948م، واشتهرت بكتبها الواقعية التي توثق شهادات مطولّة بلسان أبطالها "ضحايا الحروب والكوارث النووية" في عدة بلدان من الاتحاد السوفييتي قبل انهياره، كما تشمل أعمال ألكسيفيتش شهادات مؤثرة لجنود وطيارين وموظفين وعمال وأمهات وزوجات وأطفال خبروا تجارب مريرة وبقوا ليحكوا لنا قصصهم الموجعة، وتعتبر ألكسيفيتش المرأة الرابعة عشرة التي تحصد جائزة نوبل للآداب منذ عام 1901. في عملها "فتيان الزنك" تكتب سفيتلانا عن فتيان الحرب الذين فارقوا مدن السلام والطمأنينة، فارقوا أهاليهم بأجساد كاملة وعيون موقدة ليعودوا لذويهم محشورين بتوابيت من الزنك دون أن يتسنى لأهاليهم رؤية جثامينهم للمرة الأخيرة. يقول أحد العائدين من الحرب: "القتل هو مجرد الضغط على الزناد، لقد علّمونا: يبقى على قيد الحياة من يطلق النار أولاً.. ذلكم هو قانون الحرب". ويضيف أحد الذين شاركوا في حرب أفغانستان: "الأمر بسيط جداً، جئت إلى أفغانستان؛ لأنني صدقت كل ما يكتب في الصحف"! لم تُغفل الكاتبة أيضاً في كتابها الصراع الداخلي الذي عايش حيوات الناجين العائدين من الحرب بكامل هواجسهم وخوفهم وذعرهم، ولكن عبثاً فلا أحد ينجو من الحرب سوى الحرب نفسها.. فالجميع ضحايا. لا تتوقف آثار الحرب وأهوالها على أولئك المنخرطين فيها وحسب، بل تتعداهم لتشمل الجميع، قتلّة ومقتولين، ساسة وعسكريين، أثرياء وبسطاء، ناجين وضحايا، أما أكثر من يعيّ لوعة الحرب وآلامها فهم زوجات الضحايا وأمهاتهم: "الرجال يقاتلون في الحرب، أما النساء فبعدها..". من يرغب في التعرف على حقيقة الحرب فليطالع ما تقوله أمهات القتلى وذوو المصابين، لا شيء أسوأ من الانخراط في حرب لم يكن هدفها الدفاع عن أرض الوطن، وتبقى شهادات الأمهات عن أبنائهن أساس جوهر الكتاب الذي اعتمدت عليه الكاتبة. "هواء الحرب ملوث، مياهها وطعامها كذلك، وربما أيضاً عقول أصحابها.. مَن يدري؟!". تتساءل الكاتبة مجدداً عن الغايات المنشودة لساسة الحرب، ما الذي يجنيه هؤلاء من إشعال نيران الحروب العبثية:"لماذا يرسل الاتحاد خيرة أبنائه؟! ويوهمهم بنور المجد وهالات التعظيم.. وهم يعودون كسارى محطمين.. ماتت رغبتهم في الحياة من أول يوم وطئت أقدامهم حمى المعركة وحتى آخر رصاصة بقيت شاهدة على كل الجرائم وعلى الغبار المتطاير خلف نتانة ما تبقى من سواد!". هل جربت أن تكون أداة للقتل؟ أن يتم تسييرك وتوجيهك للتدمير فقط دون رادع أو هوادة؟ هل اختبرت ألم الفقدان من قبل؟ "ارتكبنا أفعالاً لا ندخل بعدها الجنة" يقول جندي مدفعية. الأفظع من بين كل الشرور، أن تكون أداة للسحق، آلةً في يد الطاغية.. يدمر بك، يشرد، يقتل.. ثم لا تدري بعد ذلك ما كل هذا الدمار الذي ألحقته بالآخرين، ومتى، وكيف.. ولماذا تم بوحشيةٍ استغلالك؟".تتساءل الكاتبة: " سيقتلونك هناك ليس من أجل الوطن، سيقتلونك لسبب مجهول هكذا بلا سبب. هل يمكن أن يرسل الوطن خيرة أبنائه إلى الهلاك بلا فكرة عظيمة؟" فتأتيها الإجابة على لسان أحد الجنود الناجين:"كنا نموت هناك، بينما كانوا يشاهدون هذه الحرب على التلفاز، لقد كانت الحرب بالنسبة إليهم فرجة.. فرجة". تقدم سفيتلانا في أعمالها التوثيقية تاريخاً حديثاً مختلفاً تماماً عن ذلك التاريخ الذي قرأناه في الكتب ومناهج التعليم، تخبرنا الكاتبة بأن أبطال الحروب غير المبررة ليس قادتها وسياسييها كما جرت العادة، وإنما هم أولئك الجنود وأهاليهم الذين عايشوا هذه الحروب، خاضوها ودفعوا أثماناً باهظة لقاء ذلك. "يوجد لدى كل إنسان احتياطي من القدرة على تحمّل الألم، الجسدي والنفسي، لكنه نفد لديّ منذ وقت بعيد" تقول سفيتلانا أثناء توثيقها لشهادات المقهورين. سفيتلانا التي خصصت جزءاً كبيراً من حياتها الكتابية في توثيق آلام ومآسي المقهورين أصيبت بعد كتابة "ليس للحرب وجه أنثوي" برهاب الدم، فلم يعد لديها القدرة على رؤية وجه طفل ينزف، أو مشاهدة مشهد سينمائي تظهر فيه الدماء! لم تنجُ الكاتبة نفسها من ملاحقة المحاكم حيث اتهمت بالإساءة للتاريخ والوعي السوفييتي وتعرضت لمحاكمات عديدة. تقول سفيتلانا أثناء مثولها في المحكمة بعد نشر كتابها فتيان الزنك: "إنّ الكتب التي أؤلفها هي وثيقة وفي الوقت نفسه رؤيتي للزمن. أجمع التفاصيل والمشاعر ليس من حيَاةِ فردٍ معيّن، بل من كلّ هواء الزمن وفضائه وأصواته". كما أنها لم تنجُ أيضاً من ملاحقات أمهات القتلى وذويهم اللواتي تحدثن لها عن آلامهن وأحزانهن واللواتي اتهمن الكاتبة بعد نشر الكتاب بتشويه صورة أبنائهن الذين قضوا أثناء تلبيتهم لواجب البلاد المقدس. "لا يمكن إيجاد الحقيقة بلا ألم" هكذا ردّت الكاتبة على اتهامات أمهات "فتيان الزنك" الموجودات في المحكمة، مضيفة:"جئت لكي أتبادل الحديث مع الأمهات، وأطلب المغفرة منهن؛ لأنه لا يمكن إيجاد الحقيقة بلا ألم، ويبقى السؤال نفسه الوارد في كتابي: مَن نحن؟ ولماذا يمكن أن يفعلوا بنا أي شيء؟ إعادة الابن إلى الأم في تابوت من الزنك، ومن ثم إقناعها بأن تقيم دعوى في المحكمة ضد الكاتبة التي كتبت كيف أنها -أي الأم- لم تستطِع تقبيل ابنها لآخر مرة وغسله بالأعشاب وتمسيد تابوت الزنك، فمن نحن؟".ثم تختم الكاتبة حديثها إلى أمهات القتلى:"ماذا فهمت هناك؟ إن الخير لن ينتصر أبداً، والشر لا يتناقص في العالم، الإنسان كائن فظيع والطبيعة جميلة، والغبار.. الفم مملوء بالرمل دائماً، ولا تستطيع الكلام". ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :