فتيان الزنك – الأصوات المتعددة، الدلائل والأبعاد كتبه: عبدالواحد اليحيائي (إن الكتب التي أؤلفها هي وثيقة وفي الوقت نفسه رؤيتي للزمن، أنا أجمع التفاصيل والمشاعر ليس من حياة فرد معين، بل من كل هواء الزمن وفضائه وأصواته، أنا لا أبتدع شيئاً، ولن أضيف من عندي، بل أجمع مواد الكتاب من الواقع نفسه. الوثيقة هي ما يروونه لي، الوثيقة، وجزء منها، هي أنا ككاتبة لها رؤيتها للعالم وأحاسيسها)، هكذا قالت سفيتلانا اليكسيييفيتش، مؤلفة فتيان الزنك والحائزة على نوبل في الأدب 2015.هواء الزمن، والزمن تاريخ.وفضاؤه، والفضاء بيئةُ حياة.وأصواته، والأصوات المتعددة هم الناس.والكاتب ورؤيته للعالم وإحساسه به، هو ما يشغل الحيز الأكبر من تعريفنا للفنون الإنسانية عموماً ولفن السرد خاصة.وكل ذلك ضمن حديث عن الحرب السوفياتية الأفغانية (1979-1989) من وجهة نظر إنسانية تمثل الجانب السوفياتي، وضمن سياق يلتقي فيه الأدب بالتاريخ والفن، والشاهد والوثيقة باللغة المعبرة، والانسان بالإنسان في ذاته، وهو ما يشكل ما نقرأه اليوم: فتيان الزنك. لم يقتصر مسار الرواية على الحديث عما تصنعه الحرب في الناس سواءً الجنود الذين قاتلوا أو من بقي خلفهم من أمهات وزوجات وآباء وأصدقاء، لكنه أكد أيضاً المأساة المتمثلة في هذه الحرب حين يُقال لاحقاً لمن خاضوها وقدموا أنفسهم وابناءهم وجهودهم وأوقاتهم وآلامهم ودموعهم قرباناً لها إن حربهم كانت خطأً فاحشاً لا داعي له، يقول صوت: (لقد ذهبنا إلى أفغان كالعميان، والآن يقول الجميع إن تلك الحرب كانت عاراً)، كم هو مؤلم الشعور بأن الفتيان والفتيات الذين عادوا إلى ديارهم داخل توابيت الزنك قتِلوا وقَتلوا بلا غاية واضحة، وإن آمالهم الكبيرة أحبطت بلا رجاء في رحمة أو وازع من ضمير، وإن تضحيات أقاربهم كانت بلا مبرر مقبول، بل ينتهي الأمر بأن يتحول كل شيء إلى أوسمة وأساطير كما يقرر صوت: (هناك تحت الأرض تكمن حقيقة ما، فتُعطى الأوسمة للأحياء، وتُمنح للموتى الأساطير، والجميع بخير). ويبقى سؤال ينتظم الرواية بكل أيامها وأصواتها:هل الجميع بخير حقاً؟هل الجنود الذي قتلوا بلا سبب وقتلوا بلا سبب بخير؟هل الأمهات والآباء اللذين قتل ابناؤهم وبناتهم بخير؟هل الزوجات الثكالى والأطفال اليتامى بخير؟هل الانسان بعد الحرب، هو الانسان بعدها، وهل سيبقى بخير؟كل ذلك يتغير بلا شك، ومصطلح (الخير) مطاط جداً قد يسع الخير والشر معاً ضمن نسبية يتفاوت البشر في فهمها، لكن الذي لا شك فيه أن هناك تغييراً يأتي أثناء الحرب، ثم يزداد بعد الحرب مُلطِخاً إنسانية الانسان. حتى وإن زعم الإنسان أن الملائكة كانت معه في حربه ضد الآخر، وأنها ستبقى شاهدة على صحة أفعاله حتى بعد موته، والواقع إنه في الحروب تكون الملائكة مع جميع الأطراف.والمثالية في مقابلة الواقعية بعدٌ آخر في هذه الرواية: ما يقدمه الفن والأدب للإنسان مقابل ما يقدمه جنرالات الموت واعلام الحرب. يقول صوت: (قبل الجيش علمني دوستوفسكي وتولستوي كيف أحيا، وفي الجيش علمني ذلك العرفاء، وسلطة العرفاء لا حدود لها)، الفرد المثالي المشغول بالكتب والموسيقى حين يتحول إلى جندي يقتل بلا سبب إلا لأنه إن لم يكن الأول قاتلاً فسيكون الأول قتيلاً. والحضارة في مقابلة الفوضى والدمار. والحياة كما تليق بإنسان ازاء رحلة العدم المنتهية بطموح غايته أن يجد حذاءً بماركة جيدة وبنطلون جينز وساعة وجهاز تسجيل ومنديل ملون من دكان في الريف الأفغاني، والمحزن أن يصادر ذلك كله، يقول صوت: (في نقطة الجمارك، صودرت منا الهدايا التي جلبناها معاً إلى البيت: العطور والمناديل والساعات)، وكل ذلك تحت راية حرب أممية مشغولة بكل شر ولا تدرك معنى الخير في إنسان.وبعدٌ ثالث يتمثل في تحول الإنسان إلى مسخ قاتل، التعوّد على القتل، والدم، والالغام، ورؤية الجثث والاشلاء حد الانتحار رفضاً للعودة إلى الحياة الطبيعية حيث ينشد الناس الأمن والسلام والعمل للرفاهية. مأساة بلا شك حين تصبح الحياة مملة لأنه لا قتل فيها ولا اعتداء ولا أشلاء طائرة أو دماء سالت ثم توقفت متجمدة على الاجساد والجدران. في هذه الرواية، يقتل الإنسان غيره، ثم ينتهي بالتخلص من حياته لأنها ما عادت تستطيع القتل: ينتحر الجنود حين لا يريدون العودة إلى الحضارة، وينتحرون لأنهم يرغبون في العودة إليها، وينتحر الآباء والأمهات لأنهم فقدوا الراغبين في العودة والراغبين في البقاء ضمن سلسلة من الانتهاكات للروح والجسد.وبعدٌ أخير يتمثل في الإنصاف، فرغم تبني الرواية رؤية الجانب السوفياتي في تلك الحرب، لم تنكر المؤلفة – السوفياتية سابقاً والبيلوروسية حالياً – ولا أكثر أبطال روايتها متعددة الأصوات حق الآخر – الأفغاني – في الدفاع عن وطنه، (قتل ما يقارب مليوني أفغاني في الحرب بين مدني وعسكري، غير الجرحى والمعوقين بالإضافة إلى خمسة عشر ألف عسكري سوفياتي)، ولعل الاعتراف بهذا الحق إدانة من المؤلفة للنظام السوفياتي القائم في روسيا آنذاك، وهو ما جر عليها محاكمة غير عادلة لهذه الرواية لا حقاً.يقول صوت يمثل أحد الجنود في نهاية الرواية: (أدركتُ بأن الناس جميعاً يروننا هكذا: أفواههم مليئة بالدم، ولا يتوقفون عن الكلام). وأخشى أن الجميع يرون الجنود كذلك في حالين: حين يؤمنون بعد زمن إن الحرب كانت نتيجة خطأ فادح أو إنها جريمة كان يمكن تجنبها، وحين يكون القتل هو الوسيلة الوحيدة والمفضلة لمنافسة الآخرين في مضمار كفاح.يستطيع الإنسان أن يفاخر لأنه صنع كثيراً، وأنجز كثيراً، لكن يبقى أن الانجاز البشري تلوث دوماً بآلام الانسان البسيط، دماؤه وعرقه ودموعه. تلك الالام التي نقلت لنا بعض صورها هذه الرواية القاسية عبر أصوات الناس حين تطحنهم رحى الحرب. ولقد فعلت ذلك باقتدار بالغ استحقت معه أن تنال رواية الأصوات المتعددة كما مثلتها رواية فتيان الزنك لسفيتلانا اليكسيييفيتش مكانها الجديد بين فنون السرد المعاصر حيث يعانق الفن التاريخ، وحيث تلتقي الوثيقة الحية بالإنسان الحي ليبرزا معاً فناً سردياً مغايراً. مرتبط
مشاركة :